غزة ـ محمد حبيب
يعيش في قطاع غزَّة قرابة 3500 مسيحي، يعملون في قطاعات متعدِّدة أبرزها التِّجارة والعـقارات ومحطــَّات الوقود، وهم يحتكرون إلى حدٍّ كبير تجارة الذَّهب في القطــاع، بحيــث أن غالبيَّة المصانع والورش الصَّغيرة والمحال في ســوق بيع الذَّهب في وسط مدينة غزَّة مملوكة لمسيحيِّين.
هذا ويواجه المسيحيون كما المسلمون العدوان والحصار الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، بحيث لم يستثن المحتل في عدوانه أحدا من أبناء الشعب في حرب الأيام الثمانية الأخيرة قبل عام، فاستهدف عشرات المساجد وقصف قبابها وأهلتها، وقصف أيضًا كنيسة ومدرسة العذراء.
وينتمي قرابة 2500 مسيحي من مسيحيِّي غزة إلى الطائفة الأرثوذكسية ومرجعيتهم القدس، أما الباقون فهم من الكاثوليك، ولديهم 5 مدارس، كما أنهم يتمركزون سكنيًا في مناطق محددة: غزة القديمة، حارة الزيتون، ومخيم الشاطئ للاجئين.
وفي هذا الشأن يقول مدير العلاقات الدينية في كنسية الروم الأرثوذكس في القطاع جبر الجلدة: إن عدد المسيحيين في قطاع غزة في تناقص واضح، بحيث يبلغ عددهم حاليا قرابة 2000 شخص، ينقسمون إلى قسمين من حيث أصولهم الجغرافية: فهم مسيحيون مقيمون في غزة منذ مئات السنين، وتعتبر غزة بلدهم الأصلية، وآخرون هاجروا إليها بعد نكبة العام 1948.
ونفى الجلدة أن "تكون الهجرة ناتجة عن اضطهاد من حكومة حماس، أو ضغوطات تمارس عليهم"، مؤكدا أن "غالبية المهاجرين هم شبان خرجوا من قطاع غزة بهدف الدراسة، وبعد التخرّج فضلوا البقاء في البلدان العربية أو الأوروبية، خصوصا أن غالبيتهم حصل على فرص عمل قد لا يجدونها في قطاع غزة المحاصر".
يذكر أن حركة حماس كسرت خوف المجتمع المسيحي في غزة عندما سيطرت على القطاع، إذ تقاربت مع هذا المجتمع بشكل كبير، واهتمت بإبراز مسؤولي الطائفة في مقدمة المدعوين لاحتفالاتها، كما أنها رشحت مسيحيا على قائمتها في الانتخابات التشريعية في العام 2006.ولمسيحيي غزة مؤسسات خيرية وصحية وتعليمية تقدم خدماتها للمسلمين والمسيحيين على حد سواء.
كما قسم الجلدة المسيحيين المقيمين في قطاع غزة من حيث الطوائف الدينية إلى 4: الروم الأرثوذكس، وهم يمثلون أغلبية المسيحيين المقيمين في قطاع غزة، والكاثوليك، والمعمدانيون، والانجيليون، مبينا أن عدد المنتمين إلى الطائفتين الأخيرتين قلة، وهم كانوا في الأصل من رعايا الطائفة الأم "الأرثوذكس".
ويوجد في قطاع غزة العديد من الكنائس أبرزها كنيسة القديس برفيريوس وهي كنيسة أرثودكسية في حي الزيتون في مدينة غزة وهي أقدم كنيسة في المدينة, سميت الكنيسة نسبة إلى القديس برفيريوس الذي دفن فيها, قبر القديس موجود في الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة، حيث تقع على مساحة ما يقارب ( 216 متر مربع ) في أحد أقدم الأحياء الشعبية في غزة وهو حي الزيتون، بحيث أنها بنيت معانقةً جامع كاتب ولايات في هذا الحي العريق.
ومن أشهر العائلات المسيحية في القطاع عائلة الترزي التي تمتلك عدة محطات وقود منتشرة في مدينة غزة وشمالها، وعائلة عياد المشهورة بتجارة المجوهرات، وعائلة الطويل، التي تنحدر منها أرملة الرئيس الراحل ياسر عرفات - وعائلات الصايغ والجهشان وغطاس.
ويؤكد إلياس الجلدة (أحد المسيحيين البارزين في قطاع غزة)، أن "المسيحيين في القطاع ليسوا ضيوفا أو جالية منفصلة عن المجتمع، فهم أصحاب أرض ووجودهم في القطاع وجود تاريخي يمتد عبر مئات السنين، ولهم نشاط اقتصادي بارز ويقيمون في أماكن استراتيجية وسط قطاع غزة". ويضيف أن "هذه المكانة جعلتهم ينخرطون في المجتمع الغزي ذي الأغلبية المسلمة، ويعيشون حياتهم بصورة طبيعية، إذ بات من الصعب التمييز بين الشخص المسيحي والمسلم، فالجميع عاشوا حياة واحدة". وأشار إلى "مشاركة المسيحيين إخوانهم المسلمين النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، ووقوع شهداء وجرحى ومعتقلين في صفوفهم، وهذا النضال المشترك قوى هذه العلاقة، وجعلها أكثر تجذرا، بحيث باتوا شركاء في الدم والتضحية، كما ظلوا لقرون شركاء في الأرض والتاريخ". وأوضح أن "الاحتلال الإسرائيلي حاول مرارا وتكرارا خلق روح التفرقة وإثارة النعرات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، لكن هذه المحاولات فشلت، كما فشلت المحن والظروف العصيبة في خلق هذا الشرخ".
ويرفض رئيس دائرة العالم المسيحي في مفوضية العلاقات الدولية المسيحية ورئيس الكنيسة الكاثوليكية في غزة سابقا وعضو الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات الأب مانويل مسلم "إطلاق مصطلح تعايش على العلاقة التي تربط المسيحيين بإخوانهم المسلمين في قطاع غزة"، مؤكدا أن "جميع الفلسطينيين يعيشون معا على أرض فلسطين، وهم شركاء في القضية والتضحية والنضال، وهم شعب واحد وتاريخ واحد".
وبين الأب مسلم أن "هزيمة إسرائيل أخلاقيا واجتماعيا أمام العالم، بسبب حروبها وتنكيلها بالفلسطينيين، ومحاولات بعض الجهات لخلق انشقاقات بين الدينيين، جعلتها منبوذة ومكروهة، وهذا دفعها لمحاولة فرض ما بات يسمى بربيع عربي، مبني على التفرقة والصراع". وأشار إلى أن "معالم ذلك تتضح شيئا فشيئا من خلال محاولات خلق صراعات طائفية، وبث روح الكراهية بين الدينين، وهذا ما تغذيه جماعات متطرفة وافدة، تعمل وفق أجندات مشبوهة. وإلى جانب ذلك، يسعى الاحتلال لاستمالة المسيحيين إلى جانبه في معاداة المسلمين"، مبينا أن "المسيحيين العرب، خصوصا رجال الدين والمثقفين، فطنوا لذلك، ويتصدون بكل ما أوتوا من قوة لمثل هذه المحاولات وإفشالها عبر تعميق الوحدة، واستعادة فكرة القومية العربية"، مبينا أن "صراع العرب مع إسرائيل هو صراع قومي حضاري وليس صراعا دينيا، كما تحاول إسرائيل تحويله".
وعبر الأب مسلم عن "اعتقاده بقدرة الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، على تخطي أية تحديات تواجههم، من خلال تعميق الوحدة، وبث روح المحبة، والعيش في محيط من التسامح والتآخي، فالقضية واحدة، والهم واحد، والهدف واحد".
هذا ودعا راعي كنيسة المعمدان في قطاع غزة والحامل للجنسية المصرية القس حنا ماهر، بابا الفاتيكان إلى "زيارة قطاع غزة، خلال جولته المزمعة بداية العام المقبل للأراضي الفلسطينية المقدسة".
وكان وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور دومينيك مامبرتي، قد أكد عزم بابا الفاتيكان البابا فرانسيس زيارته للأراضي المقدسة بداية العام المقبل بدءًا من الأردن.
وأكد ماهر، في تصريح صحافي، السبت "أهمية زيارة البابا لغزة في ضوء ما تواجهه من عدوان وحصار مشددين، وما ينتج عنهما من كوارث إنسانية متكررة".
وقال: إن الزيارة ستخلق أجواء إيجابية في ضوء العلاقات الدينية المشتركة بين المسلمين والمسيحين، وستعزز من فرص التحدي في مواجهة الظلم الواقع على الفلسطينين في غزة.
وشدد ماهر على أن "الزيارة ستفضح الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينين، وستوضح حقيقة ما يتعرض له أهل غزة من حصار جائر ومعاناة قاهرة تتسبب بإحداث أزمات إنسانية متكررة في غزة". وجدد تأكيده أن "أهل غزة جميعًا يتعرضون لعدوان إسرائيلي مستمر، بغض النظر عن دينهم وعن حقيقة موطنهم".
وكان القس البروتستانتي قد دعا في تصريح سابق الكنائس المصرية والمرجعيات الدينية المسيحية إلى زيارة قطاع غزة، بغرض التعرف عن قرب لحالة الحصار التي يتعرض لها.
ونفى ماهر إمكانية أن "تحقق زيارة بابا الفاتيكان تغييرًا جذريًا في حالة الحصار المفروض على غزة"، معقبًا "المحتل لا يأبه بأية قيمة سياسية أو دينية وازنة في استمراره بإجراءاته الاحتلالية العدوانية على غزة".
ونوه حنا إلى أن "عددًا كبيرًا من الكنائس ورجال الدين حول العالم، لا يعرفون بتواجد المسيحيين في غزة، وأن ثمة صورة مشوهة عن القطاع بسيطرة رجال دين مسلمين على القطاع". وشدد على "وجوب التصدي لحملات التشويه التي تتعرض لها غزة، مناديًا بضرورة تقديم يد العون والمساعدة لأهله".
أما الشاب المسيحي موسى عياد ففند مزاعم إسرائيل أن "حربها على رجال الدين المسلمين فقط"، مؤكدًا أن "المحتل استهدف كل شيء في غزة وقتل الفلسطينيين جميعًا، دون أن يسلم طفلا أو شيخا أو امرأة، فضلًا عن حصار لم يستثن أحدًا خلال 8 أعوام مضت". وقال: إسرائيل تحاول أن تتوارى خلف جرائمها بأكاذيب راجفة، ليس لها أي رصيد على أرض الواقع، والحقيقة أنها استهدفت الشعب بكل مقدساته وأديانه، وحاربت القدس بكل مقدساتها الدينية، وقصف في غزة خلال عدوانها الهلال والصليب معًا".
ويشدد موسى على "عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحين في القطاع"، موجهًا رسالته للمحتل" لم ولن تستطيع أن تفت من هذه العلاقة وكلما اشتد العدوان تشتد المحبة بيننا", ولفت إلى "ما يعانيه مسيحيو القطاع في ظل حصار خانق يتعرض له جميع أبناء الشعب وما تسبب به من أوضاع اقتصادية سيئة للغاية، إضافة إلى حرمان المحتل الشبان المسيحين من التوجه إلى الحج للمقدسات الدينية في بيت لحم".
وبيّن موسى "عمق العلاقة بينه وبين أصدقائه المسلمين"، مضيفًا لمراسل دنيا الوطن "لا أتذكر أني مسيحي في حضرة أصدقائي المسلمين، فالدين لم يشكل فارقًا يومًا بيننا، نشارك بعضنا في أحلامنا وأفراحنا وأتراحنا، وعلاقتنا أكبر من أن تفرقها إسرائيل أو أية جهة في الدنيا".
وتساءل موسى عن "دور المجتمع الدولى والدول التي تزعم رعايتها للأقليات الدينية ومسحيين الشرق في سعيها لحماية لمقدساتهم الدينية التي تتعرض لعدوان مستمر من إسرائيل، وما تواجهه من تهديد حقيقي بالانهيار نتيجة لعدوانها الجائر عليها".
أما راعي الكنيسة الشرقية في غزة المطران اليكسوس، فبدوره أكد "عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحين في غزة"، مشددًا على أن "الاحتلال يمارس عدوانه ضد المنطقة وغزة، مستغلاً الدين لمصالحه على حساب قتل واستهداف الناس".
وحذر اليكسوس من "خطورة الإشاعات التي يسوقها المحتل بغرض تفتيت العلاقة بين أبناء الشعب الفلسطيني"، وقال: إن ما يتعرض له المسلمون في غزة هو تمامًا ما يتعرض له المسيحيون أيضًا.