الحدث

الحدث

الحدث

 تونس اليوم -

الحدث

سمير عطا الله
بقلم : سمير عطا الله

كنت معجباً بشعر بدر شاكر السياب، حزيناً على شخصيته المليئة بالفقر والعذاب والحزب الشيوعي العراقي. ولم أكن هائماً بشعر عبد الوهاب البياتي، لكنني أستظرف رفقته ونمائمه على جميع الشعراء والكتاب ورفاقه في الحزب الشيوعي، ومنهم بدر، وكل من كتب كلمة جميلة، من العصر العباسي إلى عصر نزار قباني. ولم يسلم نزار من حُطيئة العراق الشفهي، إلا لأنه كان يخشى المدافعين عنه. فإذا جاءت سيرة قصيدة جديدة لنزار، امتدح أولى قصائده، أو همهم بكلام لا يفهمه أحد. وإذا كان الجو ضاغطاً، قام ومشى مغادراً المكان احتجاجاً على الذوق العام.
دامت صداقتنا حتى غيابه. والأرجح سببان: الأول، ندرة اللقاءات التي جرى معظمها في مدريد، وغالباً ما كان ثالثنا الزميل شوقي الريس. والسبب الثاني أن شوقي كان يبلغني أنني الوحيد الناجي من هجمات البياتي، وهذا أمر خطير يجب ألا يغيب عن بال.
شغل البياتي موقع الملحق الثقافي العراقي في مدريد، كما شغل نزار قبله موقع الملحق الثقافي في السفارة السورية، ومثله، أو بالأحرى ضده، هام بالإسبانيات والشعْر الفاحم ورقصة الفلامنكو. وكنا كلما التقينا في مقاهي مدريد يصل لاهثاً وكأنه يتابع حديثاً قطعناه بالأمس. ويضع علبة السجائر على الطاولة بعصبية، ثم يطلق النبأ بضحكته المؤلفة من السخرية والقهر والشماتة والفرح: «والله عيني، حدث عظيم. إيه والله حدث».
يريدك طبعاً أن تسأل ما هو الحدث، لكنه يتابع دون أن تسأل، «عيون خضر على شعر أسود حتى الكتفين. إيش أقلك عيني. حدث». وفي المرة التالية يرمي علبة السجائر على الطاولة رمياً، ثم يتابع: «حدث عيني، حدث. عمرك شفت إسبانية شقراء؟ اليوم العشاء معاها في فندق الأدباء». في الموعد التالي، ترتمي علبة السجائر من تلقاء نفسها من شدة فرحه: «اندلس اغاتي، كلش اندلس. فد شعر أسود. حدث اغاتي».
كنا نتساءل، شوقي وأنا، إن كانت هذه «الأحداث» حقيقية أم شاعرية. لكن ظرف البياتي كان يجعل قيمة الحقائق بلا أهمية. وقد رويت لشوقي في حضوره. كيف تعبنا مرة لإعداد أمسية لصديقنا في مدينة مغاربية صغيرة. واستطعنا بعد شقاء دعوة 15 أو 16 شخصاً. وبغضب منه تعالى كان ثلاثة أرباع الحضور المساكين قد فقدوا عيناً واحدة، إما بالمرض أو بالرمد أو في الحرب. وعن ماذا كانت معظم القصائد التي اختار شاعرنا إلقاءها؟ أجل. عن فقء العيون. حاولت بكل الوسائل والإيماءات والإشارات والغمز، أن ألفت الشاعر إلى الجمهور. ظل غائباً عن الوعي. وعندما حاولنا أخذ صورة تذكارية في نهاية الأمسية، خرج الجميع دون أن يصافحوا المُحاضر.
ذات يوم وصل البياتي إلى المقهى كئيباً لم يرمِ علبة السجائر. لم ينتقد أحداً. لم يهاجم الحزب الشيوعي، ولا شعراء الحداثة، لم يستصغر عقول الذين مثلي يعجبون بشعر السياب «ويرددونه» مثل الببغاوات. حاولت أن أُدخل على الجلسة شيئاً من الفرح: «شنو عيني، ماكو حدث اليوم»؟
لم يبتسم. ولا أصغى، ولا اختار ضحية يبدأ بها الجلسة. هذه المرة بدا المتمرد الأزلي مثل السياب، حزيناً ينزف كآبة. وحاولت أن أبدد هذا الوجوم قليلاً، فسألته مازحاً، ما الذي «حدث» اليوم للشعر الأندلسي الطويل؟ مسح جبينه كالمعتاد وكأنه يمسح شيئاً من السنين المتقدمة: «الحدث اليوم هو عرسها».

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحدث الحدث



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 12:14 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالإرهاق وكل ما تفعله سيكون تحت الأضواء

GMT 16:44 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

المكاسب المالية تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 02:39 2021 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

ابنة بايدن تكشف عن مخاوفها بشأن سلامة أبيها عشية تنصيبه

GMT 07:34 2017 الإثنين ,04 أيلول / سبتمبر

حلقات مفقودة في خطاب حسن نصرالله

GMT 17:25 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

"سوني" اليابانية تعلن تأجيل إطلاق بلاى ستيشن

GMT 12:53 2020 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

دفاع ريال مدريد كلمة السر في تراجع الملكي هذا الموسم

GMT 00:25 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

"غوغل" تقدم توضيحات بعد "اختفاء تشرتشل"

GMT 18:53 2021 السبت ,03 تموز / يوليو

63 رياضيا تونسيا يشاركون في أولمبياد طوكيو

GMT 12:46 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس المؤلِّف

GMT 12:37 2021 الثلاثاء ,27 إبريل / نيسان

5 مميزات تجب معرفتها عن التحديث الجديد لنظام «iOS»

GMT 09:26 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

جمال الجربوعي يؤكد 347 موقوفا من المطلوبين وسط المحتجين

GMT 00:01 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

تعرف على تأثير تعبئة خزان الوقود بالكامل على السيارة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia