في مسرح الجريمة

في مسرح الجريمة

في مسرح الجريمة

 تونس اليوم -

في مسرح الجريمة

غسان شربل

أعطيت السائق العنوان فرد بابتسامة خفيفة. نظر إلي عبر المرآة. لم يلحظ مظاهر «داعشية» أو متعاطفة. ولعله استغرب قليلاً. إنه السبت. وهذه باريس التي تنام رغم كل شيء على ألف سحر وسحر. لماذا يختار الزائر الذهاب إلى لطخة الحقد والبشاعة بدل الذهاب إلى بقع الضوء؟ لا يعرف السائق أمراض مهنتنا. الصحافي صياد بشاعات يرفع تقاريره إلى القراء.

تنفق باريس آخر رصيدها من السنة الحالية. كأنها تستعجلها التواري. سنة فاجعة تقيم بين مذبحتين. تعلم الفرنسي أن البلاد أقل أماناً مما كان يعتقد. وأنها مشرعة على عالم أكثر وحشية مما تخيل. وأن الخطر لا يأتي بالضرورة من الخارج. وأن الداخل يخبئ أحياناً مفاجآت مروعة.

لن تعثر في مسرح باتاكلان على جثث. أو بقع دماء. المكان مقفل. ومن عادة الأيام أن تغسل كل شيء وأن تخفي كل شيء. لكنك تسترجع المشهد. متعصبون يقتحمون المكان. يغتصبون أعمار الحاضرين. لا تستوقفهم استغاثة. ولا ترف جفونهم أمام توسلات النازفين. عيون الضحايا تضاعف الرغبة في القتل. يدفع الإرهابي فريسته إلى الموت ويستقل القطار الأول إلى الجنة.

غادرت الجثث المكان. لكن الحقد لا يزال حاضراً ومتشحاً بكامل وحشيته. وكراهيته العميقة. أنهكت الأمطار الورود الدائمة التجدد وجرحت حبر الرسائل. لم تنل من رائحة الإثم الذي ارتكبه الوافدون من الكهوف بعيون مسنونة وقلوب مسنونة.

شعرت أنا العربي بالارتباك. وأكاد أقول بالذنب. لم أصفق يوماً لقاتل أكان رجلاً أم فكرة. لكنني أحمل ذلك الوشم. لعنة الانتماء إلى الشرق الأوسط الرهيب. إلى الجزء المجنون من الكرة الأرضية. منطقة الفشل الصارخ. مجتمعات تعجز عن الالتحاق بالعصر. تختار الانفجار به. شبان يحلمون بدفع الآخر إلى رماده. ويندفعون إلى رمادهم.

خشيت أن أقف وحيداً هناك. كنت مخطئاً. لا تريد باريس أن تنسى. جاء كثر مع أزهارهم. وصغار مع رسائلهم. وقفوا بتهيب والتقطوا صوراً تذكارية. تموت البلاد حين تنسى دم الأبرياء.

وقف قربي رجل اصطحب ابنته. سألته. قال إنه يريد «أن يحصنها ضد الخوف وضد الكراهية أيضاً». أعرب عن قلقه من تسرب رياح الكراهية إلى داخل الجسد الفرنسي. وخشي من جاذبية «داعش» وأخواته. وشدد على ضرورة مكافحة مروجي الكراهية والدعوات إلى إلغاء الآخر المختلف عبر ورشة أمنية واقتصادية وثقافية.

سألني الرجل من أين أنا. اعترفت. قال إنه عمل في الجزائر واليمن وأنحاء أخرى في العالم العربي والإسلامي. ويدرك شعور بعض الشبان بأنهم يعيشون في عالم صنعه آخرون. من السيارة إلى ماكينة الحلاقة. ومن جهاز التبريد إلى الإنترنت. وأن الذين صنعوا هذا العالم جاؤوا من ينابيع أخرى وقيم أخرى. وأضاف: «هل الحل أن تقتلهم أم أن تبني أنت مدارسك وجامعاتك ومؤسساتك. نحن لا يمكن أن نتنازل عن حق أطفالنا في العيش بحرية في مجتمع ديموقراطي منفتح ومتعدد يحترم الاختلافات. أنا أخشى على أولادكم أنتم. فما هو مشكلة مؤلمة لنا أحياناً قد يتحول مأساة دائمة لكم. عليكم أن تواجهوا السؤال الصعب: هل يحق لأحد أن يقتل بريئاً لأنه لا يشبهه ومن يعطيه هذا الحق؟».

في ساحة الجمهورية القريبة المشهد نفسه. باقات ورسائل تؤكد الإصرار على عدم الرضوخ لمنطق الإرهاب والكراهية والحقد. كأن فرنسا تقاوم. ترفض الرضوخ لأمواج الظلام وتحاول قطع الطريق على صعود المتطرفين في الداخل. تتمسك بالعيش في ظل إرثها الديموقراطي والإنساني وتتمسك بسياسة الجسور في وجه سياسة الجدران والسدود.

غادرت مسرح الجريمة. ماذا لو قررت أنا العربي أن أتفقد مسارح الجرائم في بلداننا من تونس وليبيا إلى العراق مروراً بسورية وغيرها؟ عمر واحد لن يكفي. وكل شبر مرشح أن يكون مسرحاً لجريمة. والقصة في أولها. وجيش الهاربين من مواجهة الحقيقة هائل وجرار. جيش الذين يستنكرون القتل ثم يسارعون إلى استخدام كلمة ولكن لاستنباط التبريرات والعثور للإرهابيين على أسباب تخفيفية. من يتقبل قتل بريء واحد يتقبل قتل شعب كامل.

أنا ابن الشرق الأوسط الرهيب. عتمة الظلم تسحقني. وعتمة الظلام تغتالني. كلاهما يستدعي الآخر. يحاربه ويرفده ويمهد له الطريق. من الكهوف تتدفق أنهار داكنة تجرف الحدود والمدن والجامعات والنوافذ. يشرب الأطفال من الينابيع المسمومة. تستحيل عيونهم خناجر. وأصابعهم خطافات. تلتف عليهم أعمارهم كالأحزمة الناسفة. الآخر المختلف تهديد وجودي. لن أعيش معه في الحي أو المدينة أو على سطح الأرض. أقتله أو يقتلني. أدفعه إلى رماده أو يدفعني. القصة في أولها. والآتي أعظم.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في مسرح الجريمة في مسرح الجريمة



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 17:17 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 18:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:04 2021 الخميس ,09 كانون الأول / ديسمبر

الخطوط التونسية تعلن عن برمجة رحلتين إضافيتين إلى لندن

GMT 11:01 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

فوائد الروزماري الطبية والجمالية

GMT 16:25 2021 الثلاثاء ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

قانون المالية التعديلي في تونس يؤكد وجود عجز بـ9،7 مليار دينار

GMT 17:34 2021 الخميس ,01 إبريل / نيسان

وطنُ الصَفْحِ والمصالحةِ والمصافحة

GMT 17:54 2020 الجمعة ,25 كانون الأول / ديسمبر

انخفاض في درجات الحرارة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia