صحافي حتى الرمق الأخير

صحافي حتى الرمق الأخير

صحافي حتى الرمق الأخير

 تونس اليوم -

صحافي حتى الرمق الأخير

غسان شربل

كنت في باريس في بداية 1981 وصودف وجود ميشال أبو جودة رئيس تحرير «النهار» التي كنت محرراً شاباً في قسمها العربي والدولي. قال أبو جودة: «لا ترتبط غداً أريدك أن تتعرف الى رجلين». وهكذا كان.

ذهبنا في اليوم التالي وتناولنا الغداء مع أمين معلوف. ولم أكن أعرفه إذ غادر «النهار» قبل أن أعمل فيها. كنت معجباً بمقالات أمين الذي أمسك باكراً بخط التوتر بين الثقافات والهويات. لكن لم أكن أعرف أنه سيواصل الحفر في ذلك المنجم ليتحول كاتباً استثنائياً وروائياً ينتظر القراء جديده.

وبأسلوبه الذي لا يوضح طلب أبو جودة مني أن أكون في فندق «لوكريون» في الخامسة مساء للتعرف إلى الرجل الآخر. وفي الموعد المحدد وجدتني أمام محمد حسنين هيكل. وكانت بين هيكل وأبو جودة صداقة ومودة الطرف الثالث فيها غسان تويني.

شعرت بشيء من الارتباك في بداية الجلسة التي لم يكن هناك ما يبرر حضوري فيها. كنت صحافياً مبتدئاً وها أنا أجلس بين الكاتب الصحافي الأبرز في لبنان والكاتب الصحافي الأشهر في العالم العربي. وباستثناء جمل قصيرة، اخترت متعة الاستماع على رغم محاولة الأستاذين إشراكي في النقاش.

كان الموضوع الأبرز الثورة الإيرانية. اعتبر هيكل أن الثورة الإيرانية حدث كبير جداً خصوصاً أنها ولدت من خارج قاموسي المعسكرين اللذين يتقاسمان العالم. ورأى أن ثورة الخميني قد تؤدي إلى تغيير العالم الإسلامي إذا نجحت في تركيز نموذج جاذب. وكانت ملاحظة أبو جودة أن إيران دولة مهمة جداً لكنها ليست قلب العالم الإسلامي لتغيره، لافتاً إلى هويتها الشيعية في بحر سني. توقع أيضاً أن تشهد الثورة الإيرانية مزيداً من التصفيات وإراقة الدماء مذكراً بممارسات رهيبة رافقت الثورة الفرنسية.

رأى هيكل أن صدام حسين شن الحرب على إيران بتفويض أميركي وخليجي ملاحظاً أن الحرب ستوحد الإيرانيين الذين كان يمكن أن يعيشوا تمزقات حادة لو تركت الثورة من دون تهديد خارجي. وكان رأي أبو جودة أن الخوف هو ما حرك صدام لهذا اختار أن يواجه إيران على الحدود أو داخل أراضيها كي لا يضطر لاحقاً إلى مقاتلتها في شوارع بغداد.

تناول الحديث أشياء أخرى. استوقفتني بعد انتهاء الجلسة ملاحظة أبو جودة. قال إن هيكل صحافي كبير وكاتب مهم لكن تجربته مع جمال عبد الناصر والتي وفرت له فرص اللقاء بكبار القادة في العالم أثرت في خياراته. فهو يريد أن يكون إما عقل الحاكم وإما عقل المعارضة. واعتبر أن الحاكم لا يستطيع احتمال صحافي له مثل هذه الصورة إلا إذا كان زعيماً غير منازع مثل عبد الناصر لا تقترب هالة الصحافي من هالته مهما كبرت.

كان محمد حسنين هيكل صحافياً من الوريد إلى الوريد. يقرأ ويتابع ويسأل عن الأشخاص والأحداث. لكن الوقت الذي لا يرحم حاكماً أو كاتباً ترك بصماته على طريقة تفكيره وقراءته للتطورات، خصوصاً بعد بداية القرن الحالي. تمسك بقراءة سابقة للوضع العربي والأدوار والمواقع ما جعل مداخلاته شائكة ومثيرة للجدل فاتحة الباب للانقسام حول موضوعية «الأستاذ» ومواقفه من «الربيع العربي» وغيره.

كان هيكل يحب الحديث في شؤون المهنة وشجونها. وكان يحرص في زياراته إلى لندن على لقاء عدد من الصحافيين وكنت واحداً منهم. قبل عامين اتصل بي قائلاً: «أنا مسافر بعد الظهر لكن لدينا ساعة لنشرب الشاي وأريد أن استفسر عن بعض المسائل».

ذهبت إليه. استهل اللقاء بسؤالي لماذا وضعتم خبراً عن مشكلة تتعلق بالحجاب في روسيا على أربعة أعمدة في اعلى الصفحة الأولى؟ أجبت أن في روسيا أكثر من عشرين مليون مسلم ولا غرابة أن تهب على بعضهم رياح التطرف. سألني أردت أن أعرف هل السبب سياسي أم مهني؟ فأجبت إنه مهني وبسبب المواضيع المطروحة.

قال: «سأطرح عليك سؤالاً محرجاً ومن حقك ألا تجيب. ماذا طلب منك ناشر الصحيفة الأمير خالد بن سلطان حين عينك رئيساً لتحرير «الحياة»؟ أجبت: «طلب بالحرف أن أحافظ على الحياة جريدة عربية ودولية مستقلة تحترم عقل القارئ». قال: «هذا جيد وجديد في عالمنا العربي. ربما لهذا السبب يحرص شخص مثلي على قراءة صحيفتكم حتى ولو اختلفت وجهة نظره مع عدد غير قليل من كتابها».

وفي الجلسة نفسها قال: «إن الصحافة خيار ممتع ومتعب والصحافي الحقيقي هو من يجعله عمله أكبر من لقبه ذلك أن الألقاب تأتي وتذهب». يخطئ الصحافي ويصيب لكن الأكيد هو أن هيكل ظل صحافياً حتى الرمق الأخير.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صحافي حتى الرمق الأخير صحافي حتى الرمق الأخير



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 17:17 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 18:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:04 2021 الخميس ,09 كانون الأول / ديسمبر

الخطوط التونسية تعلن عن برمجة رحلتين إضافيتين إلى لندن

GMT 11:01 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

فوائد الروزماري الطبية والجمالية

GMT 16:25 2021 الثلاثاء ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

قانون المالية التعديلي في تونس يؤكد وجود عجز بـ9،7 مليار دينار

GMT 17:34 2021 الخميس ,01 إبريل / نيسان

وطنُ الصَفْحِ والمصالحةِ والمصافحة

GMT 17:54 2020 الجمعة ,25 كانون الأول / ديسمبر

انخفاض في درجات الحرارة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia