أميركا بايدن في عالم تغيّر

أميركا بايدن في عالم تغيّر

أميركا بايدن في عالم تغيّر

 تونس اليوم -

أميركا بايدن في عالم تغيّر

غسان شربل
غسان شربل

الفوز مكافأة كبرى وعبء ثقيل. مكافأة كبرى لأنه يعفيك من مشاعر الخسارة والهزيمة. وعبء ثقيل لأن السؤال البديهي هو ماذا ستفعل بهذا الفوز؟ وكيف ستنظم الهبوط الآمن من هذه القمة التي أدركتها؟ ربما من حق جو بايدن أن يعتب قليلا على حظه. كان يشتهي أن يحصد الجائزة الكبرى قبل سنوات طويلة. مرتين حاول الاقتراب لكنهم أبعدوه وانحازوا إلى آخرين. لم ييأس

ولم يبتعد. الحلم بالسلطة مرض يدخل الأنسجة ويقيم. لم تكن حياة بايدن الشخصية سهلة على الإطلاق. اعترض القدر طريقه وأصابه عند أكثر من منعطف. زوجته الأولى وابنته. ثم ابنه. لديه من الأوجاع الشخصية ما يكفي لليأس لكنه لم يسلم أن مستقبله توارى مع من تواروا حوله. احتفظ بالأمل العادي ومن دون أن يتسم بعناد علني واستثنائي. وفي الكونغرس، كما في الإدارة، كان الرجل الذي يجيد التعايش، بما في ذلك مع دوره في الصف الثاني، ومن دون أن يرسل إشارات التبرم بمقعده أو حدود دوره أو انشغال الأضواء دائما بصاحب الموقع الأول. في الكونغرس وفي اللجان وفي موقع نائب الرئيس كان عليه أن يتعامل مع ملفات ووقائع وسياسات وتجاذبات وكيديات. وكان يشارك من دون أن يكون الرجل الذي يضرب الطاولة بقبضته أو الرجل الذي يقلب الطاولة. لم يكن سارق الأضواء لكنه كان يروّض نفسه على الصبر الطويل على أمل أن تحين ساعته وها هي حانت وهو على بعد ثلاث خطوات من الثمانين.

على مدى نحو خمسة عقود كان بايدن عبر موقعه في الكونغرس أو الإدارة شاهدا على توالي العهود وتباين السياسات وعلى الانقسامات الأميركية في الداخل والتقلبات الأميركية في الخارج. رأى أميركا تغادر فيتنام مبللة برائحة الهزيمة. وشاهدها تطلق سباق تسلح كان مكلفا لاستنزاف الاتحاد السوفياتي، ثم رآها تحاول إراقة دم «الجيش الأحمر» فوق صخور أفغانستان. رأى أميركا تتغير في الداخل بفعل تبدلات سكانية وثقافية واقتصادية وتكنولوجية، ورأى أميركا تتغير مع العالم في الخارج. عاين بايدن جدار برلين يتهاوى والاتحاد السوفياتي يتوارى وسمع العالم يتحدث عن «القوة العظمى الوحيدة»، ورأى حلف الناتو يحرك «ثوراته» وبيادقه في اتجاه حدود الاتحاد الروسي الذي خرج في صورة اليتيم من الركام السوفياتي. وكان بايدن حاضرا في العمل الحزبي والسياسي حين راح الشرق الأوسط يتلوى على وقع الانفجارات الإيرانية والمغامرات الصدّامية. وكذلك حين نقلت «القاعدة» الحرب إلى الأرض الأميركية نفسها، ما دفع الآلة العسكرية الأقوى في التاريخ إلى الخروج في حملة تأديب شطبت نظامي «طالبان» وصدام حسين.

بعد هذا الانتظار الطويل وسط تحولات الداخل والخارج لا يحق لبايدن أن يشكو من تعامل الحظ معه في السنوات الأخيرة. لو ابتسم الحظ قبل أربع سنوات لهيلاري كلينتون لما كان بايدن يستعد حاليا للانتقال إلى البيت الأبيض. نعرف أن هدايا الحظ لا تكفي وأن على المرء أن يلاقي حظه، وأن يوفر قاعدة للإفادة من الفرص حين تتاح. وفي هذا السياق لم يخطئ بايدن. صاغ لنفسه موقعاً وسطياً يمكن أن تضطر إلى القبول به التيارات الأخرى في الحزب الديمقراطي التي ذهبت في هذا الاتجاه أو ذاك. بدا في صورة ابن شرعي للحزب يمكن أن يلتقي عليه من يتعذر وصولهم إلى البيت الأبيض بسبب تطرف طروحاتهم والقلق الذي تثيره لدى القواعد المحافظة أو العكس. اختار لنفسه نقطة الوسط أو أقرب نقطة إليه، مقدماً أوراق اعتماده في صورة القادر على ضمان تلاقي مختلف الطاقات لحرمان دونالد ترمب من تمديد إقامته في البيت الأبيض.

نجح بايدن في الإيحاء أنه الخيار الأفضل أمام حزبه، وأن على الحزب أن يختار بين السير معه أو تمضية أربع سنوات صعبة أخرى في ظل ترمب. والحقيقة أن بايدن تلقى هدية غير متوقعة، ومن دون أن يكون له أي دور فيها. انقضّت جائحة «كورونا» على العالم وفاجأت الجميع بلا استثناء. وبعد أسابيع فقط تبين أن الوباء أخطر مما اعتقد الناس في البداية، وغرق العالم في مسلسل من الخسائر البشرية والاقتصادية، كان للولايات المتحدة منها نصيب كبير. ولا مبالغة في القول إن التطور كان كارثياً تماماً بالنسبة إلى سيد البيت الأبيض. كان ترمب يأمل أن يحمل إلى الناخبين الأرقام الاقتصادية التي تشير إلى أن «أميركا استردت حقوقها وازدهارها وعظمتها»، لكن «كوفيد - 19» أغرق الاقتصاد والبلاد والعباد في مناخ الخسائر والكآبة واليأس. وضاعف من الصعوبات أمام ترمب عدم نجاح المختبرات في اكتشاف لقاح سريع يخرج العالم من أسر «كورونا». وكذلك الأسلوب الذي اتبعه الرئيس نفسه في التعامل مع الجائحة حتى حين أرغمته على ملازمة سرير المستشفى لبعض الوقت. وهكذا غرقت أميركا، ومعها العالم، في مبارزة قاسية وطويلة بين ترمب وبايدن. رجلان من حزبين متنافسين وقاموسين مختلفين وأسلوبين متناقضين. بدا ترمب أشبه بعاصفة هبت على أميركا من خارج القاموس العادي لرؤسائها، في حين بدا بايدن وريثاً صبوراً لتقاليد واشنطن ومؤسساتها يخطئ ويصحح من دون أن تغريه خيارات الحسم الصارخ واللاعودة.

حين يفتح بايدن خريطة العالم في البيت الأبيض سيكتشف أنه رئيس أميركا التي تغيرت في عالم تغير. مرور ترمب في السياسة الأميركية والبيت الأبيض لم يكن عابراً. والأصوات التي حصدها في منافسة بايدن تشير إلى ذلك. ليست سهلة «إزالة آثار الترمبية» التي يتحدث عنها كثيرون، خصوصاً أنها كشفت تمزقات عميقة في المجتمع الأميركي.

أميركا تغيرت والعالم تغير. كيف سيتعاطى بايدن مع «الصعود الصيني» أو «الخطر الصيني» الذي أقلق ترمب؟ كيف سيتعاطى مع فلاديمير بوتين الذي يذهب إلى الانتخابات، ويرجع منها بالأوسمة لا الجروح؟ وكيف ستكون علاقاته مع أوروبا التي أثخنها الوباء مضاعفاً أوجاعها من «الخيانة البريطانية»؟ وكيف سيتعامل مع الشرق الأوسط وسياسات زعزعة الاستقرار والأحلام النووية ونزهات المرتزقة بين الحرائق القريبة والبعيدة؟ الشرق الأوسط تغير أيضاً. الاختراقات الإيرانية لا تحمل وصفة استقرار بل مشاريع مواجهة. والدور التركي أكبر من قدرة المنطقة وجوارها على الاحتمال. والمشهد العربي - الإسرائيلي شهد تغيرات أساسية في الفترة الأخيرة. ودول مجلس التعاون الخليجي استخلصت العبر من تجاربها السابقة مع السياسات والإدارات.

العالم من منابر الحملات الانتخابية شيء ومن نافذة البيت الأبيض شيء آخر. للمصالح كلمة حاسمة في أي قراءة هادئة لمستقبل العلاقات. الأرقام أكثر دقة من التحليلات وجاذبية المفردات. ولا بد من الانتظار لمعرفة ملامح أميركا ما بعد ترمب.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا بايدن في عالم تغيّر أميركا بايدن في عالم تغيّر



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 03:58 2016 الإثنين ,21 آذار/ مارس

أهم الفوائد الصحية للزعتر أو الأوريجانو

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 11:26 2020 السبت ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

تسجيل 3 حالات وفاة جديدة بكورونا في زغوان

GMT 08:19 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

إنقاذ 9 بحارة تونسيين من موت محقق في سردينيا الإيطالية

GMT 18:22 2021 الإثنين ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتعزيز إضاءة المنزل في الشتاء

GMT 14:23 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

خانه التعبير واعتذر.. فلِمَ التحشيد إذن!

GMT 16:41 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

المغرب التطواني يفسخ عقد فيفيان مابيدي بالتراضي

GMT 16:14 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

تويوتا تكشف عن جي آر سوبرا 2021 الرياضية

GMT 15:02 2021 الخميس ,29 إبريل / نيسان

إيرادات "فيسبوك" ربع السنوية تفوق التوقعات
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia