سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة

سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة!

سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة!

 تونس اليوم -

سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة

جورج سمعان

تقيم الكويت في جغرافيا معقدة. يحكم مواقفها وسياستها موقع جيوستراتيجي على خط تماس حار يزداد سخونة. فتبدو من بعيد كأنها لا تقف على ساق واحدة، بل على إصبع قدم واحدة. لن تسقط وإن لاح أنها تشارف على السقوط. لا تعتمد الحياد أو سياسة النأي بالنفس كما يتراءى لبعضهم. بل تحرص على مراعاة التوازن في الداخل والخارج. ولا ضير إن رتب عليها هذا الحرص شيئاً من البرودة مع هذا الطرف أو ذاك. ترى إلى هذا خيراً لها من اندفاع قد ينعكس سلباً، ويخلف نتائج لا قدرة لها على تحملها. فهي تراقب بخوف وحذر النيران المستعرة حولها في الإقليم، في ظل ظروف وأخطار قل نظيرها تنذر بحرب عالمية لا تبقي ولا تذر. وهاجسها الأول الأمن وسبل حماية جبهتها الداخلية. وتخوض، في الوقت عينه، تجربة لم تألفها من قبل: البحث المحموم عن ثقافة اقتصادية ومالية وضرائبية جديدة تقيها آثار التقلبات في أسعار النفط وتحافظ على الأمن الاجتماعي في هذه الظروف الدقيقة.

لا تساوم الكويت على عضويتها في مجلس التعاون لدول الخليج. ولا تتساهل في التزاماتها عضواً فاعلاً. ولا يغيب عن ذاكرة مواطنيها، وهم يحتفلون بعد أيام بالذكرى الخامسة والعشرين لعيد التحرير، ما قدم أشقاؤهم في المجلس، إلى جانب معظم العرب الآخرين والعالم، أثناء الغزو العراقي بلادَهم وخلال معركة التحرير. لكن خريطتها الديموغرافية الداخلية لا تسمح بسياسات جذرية أو مواقف راديكالية. ولا يمكنها المساهمة في شد حبل التوتر على وقع ما يجري في المنطقة. هناك كتلة وازنة تعلي الصوت في مواجهة إيران واندفاعها في أكثر من بلد عربي. وفي المقابل أقلية، أياً كانت نسبتها، لا تخفي مشاعرها القريبة من الجمهورية الإسلامية. إلى هذا الواقع الشعبي والاجتماعي يحسب الحكم حساباً دقيقاً لموقع البلاد على خط التماس البحري مع الجار الشرقي، والبري مع الجار العراقي شمالاً. وتعرف مدى التماهي بين موقفي الجارين وحضور طهران الطاغي في بغداد. وتكاد حال الكويت تشبه حال أوروبا الغربية أيام الحرب الباردة بين الجبارين. تقيم على تخوم المواجهة وحدودها إذا تصاعد التوتر الإقليمي وانفجر. ستكون من أبرز الساحات.

ولكن، إزاء هذه الحسابات، لا تتهاون الكويت حيال الأمن. لا مجال للمساومة والموازنة. لم تتردد الأجهزة الأمنية والقضائية في معالجة صارمة لـ «خلية العبدلي». وأبعد من الاستقرار المحلي، لم تلق إيران تجاوباً من جارتها الغربية عندما تمنت على أميرها الشيخ صباح الأحمد الصباح التوسط بينها وبين المملكة العربية السعودية. كيف تتوسط وهي أيضاً لها اعتراضاتها على تدخلات طهران في أكثر من بلد عربي؟ بل استدعت الحكومة سفيرها من طهران تعبيراً عن تضامنها مع الرياض التي تعرضت سفارتها وقنصليتها للحرق والتخريب. وعندما استدعى الأمر المساهمة في «عاصفة الحزم»، لم تتردد في إرسال طائرات وآليات مدرعة وجنوداً للمرابطة على الحدود الجنوبية للمملكة والمشاركة في ردع تدخلات الحوثيين وقوات حليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح عبر هذه الحدود. لم تنخرط في الميدان العسكري داخل اليمن. موقف دفاعي يمليه عليها ميثاق مجلس التعاون، فضلاً عن «دَين» سعودي أيام الغزو. أما في الأزمة السورية فموقفها مختلف. منذ البداية عبرت، عن موقف محايد، أو آثرت الابتعاد تاركة للسوريين أن يحلوا قضيتهم من دون أي تدخل. لكنها عوضت ذلك، كعادتها، بانخراطها في المجال الإنساني ومعالجة نتائج الحرب. واستضافت المؤتمرين الأول والثاني للمانحين لرفع المعاناة عن النازحين في الداخل السوري وفي دول الجوار.

هذا التوازن في قياس الكويت سياستها جنّبها ارتدادات زلازل الصراع المذهبي والحروب الأهلية في المنطقة، وإن لم يوفرها الإرهاب كغيرها من الدول في الجوار القريب والبعيد. وليس هذا التحدي الوحيد الذي يلقي بثقله على الساحة الداخلية. هناك تدني أسعار النفط التي دفعت الحكومة ومجلس الأمة وكل الهيئات الاقتصادية والمالية إلى التحرك لمعالجة العجز في الموازنة العامة. لم تعد اللعبة السياسية التقليدية ومشاحناتها، والتي أدت في السنوات الأخيرة إلى مجلس النواب أكثر من مرة، هي الطاغية. هي تحت الرماد أو في إجازة. لا تسمح الظروف الضاغطة بترف العودة إلى الصراع المكشوف على مختلف الصعد، في أوساط النخبة الحاكمة التي تبحث عن دورها في المسقبل، أو في الوسط السياسي بين المعارضة والحكومة، على جاري العادة. علماً أن التفاهم والتنسيق بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية ساعدا على تحريك عجلة عدد من المشاريع. ويتوقع أن يترجما بالتوافق على خطة لإعادة النظر في سياسة «الدعوم» للمحروقات والكهرباء والمياه والطبابة في الخارج وغير ذلك من خدمات. إنها فرصة نادرة بعد عقود من اعتماد المواطن والمقيم على الدعم الرسمي الذي جعل فئة من العامة تعتقد، في ظل الأزمة الحالية لتمويل العجز، بأن «رفاه المواطن» جزء من مسؤولية الحكم نص عليها الدستور!

تدني أسعار النفط مناسبة لنقلة نوعية وسياسة إصلاح واسعة وشاملة في مجالات الاقتصاد والمال وخطط التنمية، كما عبر وزير الإعلام الشيخ سلمان الحمود. ودعا إلى ثقافة جديدة بعد عقود ساد فيها مفهوم لدى المواطن والمقيم أن الخدمات كل الخدمات مجانية. رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك يعي أن حكومته في وضع لا تحسد عليه. لكنه مطمئن إلى التعاون مع النواب. فالكل يعي أن مهمة الإصلاح تحدٍّ شاق ولا حلول سحرية. ومجلس الأمة يطالب الحكومة بالقرار المناسب، كما عبر رئيسه مرزوق الغانم، وإلا اتجهت البلاد نحو الإفلاس. ولكن، كيف التوفيق بين ما يدعو إليه من قرارات «تحفظ دخل المواطن وجيبه»، وإجراءات الترشيد ورفع الدعوم، وهي وصفة ليست مرغوبة شعبياً في أي بلد؟ وزير المال نائب رئيس الوزراء أنس الصالح أكد أن التقشف لا مفر منه. ويكاد الكويتيون يجمعون على وجوب وقف اللجوء إلى صناديق الاحتياط، حماية لمصالحهم وتأمين الأجيال المقبلة. وحذرت غرفة التجارة والصناعة من استهلاك الاحتياطات لتمويل العجز لأن ذلك سيحرم البلد من دخل استثمارها ويزيد من العجز في السنوات المقبلة، ويجعل عملية الإصلاح أكثر عسراً وتكلفة. وحذرت الغرفة من خطورة التردد والتأخير في إعادة هيكلة الاقتصاد جذرياً بصرف النظر عن أسعار النفط. لقد ولت سنوات الرفاه والمرحلة تقتضي الترشيد والتقشف. لكن ثمة أصواتاً ترتفع منادية بأن معالجة الأزمة تبدأ بوقف الهدر في المرافق العامة قبل وقف الدعم عن المواطنين. أمير الدولة بدأ بديوانه فأمر بخفض موازنته. الرسالة واضحة لا تحتاج إلى شرح. جريدة «القبس» تحدثت بالخط العريض عن «تسونامي هدر يعصف بملياري دينار». وسألت: «ترفعون الرسوم فمتى توقفون الهدر والفساد؟».

خطة الحكومة لمواجهة الأزمة موضوع نقاش بينها وبين مجلس الأمة الذي يتوقع أن يقر الإجراءات الجديدة مطلع الشهر المقبل. لكن هذا النقاش أضاف مادة جديدة إلى الجدل السياسي المحتدم في الديوانيات والمنابر الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي. وكانت أوساط معنية باستقرار البلاد تأمل بمبادرة تساعد على خفض الاستياء أو التوتر الذي قد يسود بعض الأوساط نتيجة توجه الكويت إلى وداع «دولة الرعاية» والرفاه المجاني. علماً أن الكويت ليست الأكثر تضرراً بين الدول من تدني أسعار النفط، ولديها خيارات كثيرة متاحة وبدائل ووسائل مفتوحة، وإن آلمت ذوي الدخل المحدود وصغار الموظفين. وإن قدمت مادة إلى بعض السياسيين من «منتهي الصلاحية» كما عبر مرزوق الغانم.

في أي حال، لا يغيب عن طبقة من المثقفين والسياسيين أن الفرصة ربما متاحة لمصالحة لتعميق الاستقرار، بعد سنوات من المواجهة بين أهل الحكم وفئة من المعارضة انتهت بسجن أحد رموزها مسلم البراك. يرى بعضهم أن أمير البلاد صبر طويلاً على خطاب سياسي غير معهود بنبرته، لكنه لا يعدم ميزة الحسم والشدة عندما تقتضي الأوضاع. وقد فعل. وهو يدرك جيداً أن موت السياسة في بلد حيوي مثل الكويت ليس في مصلحة الديموقراطية وتقاليد البلاد وعلاقاتها الاجتماعية. وكان بعضهم ينتظر مبادرة للعفو عن البراك وغيره. لكن ثمة إجراءات دفعت الأخير إلى التصلب. علماً أنه كان على المعارضة أن تدرك، قبل الوصول إلى ما وصل إليه الأمر، أن المغالاة والتصعيد جلبا لها أضراراً. فهل تتعظ؟ إلى تنفيس الاحتقان الداخلي، تبدو الحاجة ملحة إلى إصلاح سياسي لتهدئة التنافس وضبط الطموحات السياسية في وسط النخبة الحاكمة. وإلى عقد اجتماعي جديد يفتح الطريق أمام كل الفئات والطبقات للحفاظ على بلد صغير وسط منطقة عاصفة، فلا تبقى قلة من الكويتيين تعيش كأن البلاد التي اجتازت أكبر أزمة في تاريخها إبان الغزو، يمكن أن تتعرض لما هو أدهى وأخطر. التوازن في التعامل مع الخارج والداخل يجب تعزيزهما بالمصالحة والإصلاح السياسي والاقتصادي لتترجل الكويت عن إصبع قدم واحدة... وتقف على ساقين ثابتتين.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة سياسة التوازن في الكويت على إصبع قدم واحدة



GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 13:58 2021 الإثنين ,22 آذار/ مارس

الأيام التي تركت بصماتها

GMT 12:53 2021 الخميس ,11 آذار/ مارس

الرومانسية العربية

GMT 11:14 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

ثلاثية الكويت

GMT 13:17 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

استقرار واستمرار وتحديات

GMT 17:56 2021 الأربعاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تونس تعلن عن الترفيع في المنح وفي مقاعد الدراسة للفلسطينيين

GMT 00:48 2019 الأحد ,27 كانون الثاني / يناير

"رشاد تفضل الصلصال الحراري عن "السيراميك

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 16:07 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

«جليكن هاوس» أحدث صيحات سيارات السباق الهيدروجينية

GMT 17:18 2021 السبت ,23 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل وأهم السيارات العائلية في 2021

GMT 18:51 2019 الجمعة ,28 حزيران / يونيو

السمك يحمي صغيرك من الإكزيما

GMT 12:54 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

عرض أزياء أوسكار دي لا رينتا ما قبل خريف 2016

GMT 13:02 2020 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

إنما عاتب على قدري
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia