كنا سبعة على الَنْبَعْه. إجا الطيار صرناِمِّيْه». صاغت مدينة الفرح مأساتها الدموية بتحوير في غناء القدود الحلبية. فعندما جاء الطيار الروسي أو العلوي بالبراميل المتفجرة، صار عدد الضحايا مائة من القتلى. حلب تعودت أن تمزج هموم حياتها اليومية بالفن. فما من حلبي إلا ويعرف قواعد الغناء ومذاهبه، وما من مغٍن أو ملحن يعتبر نفسه فناًنا ناجًحا، إذا لم تغِّن حلب أغنية أو لحًنا له.
كتبت هذا الموضوع في الـ«ويك إند»، قبل أن يتضح تماًما الوضع الميداني. نعم، حدث اختراق. فقد تمكنت المعارضات المسلحة من الوصول إلى مفارق الطرق في جنوب المدينة. وجنوبها الغربي، بعد تشكيل غرفة عمليات مشتركة. واقتحمت مواجهًة، وبشجاعة فائقة، الكليات العسكرية الثلاث. لكن عليها استكمال احتلال مصنع كبير للإسمنت، في ضاحية الراموسة الجنوبية. وتطهير المنطقة من القناصة، ليمكن القول إنها فكت الحصار عن حلب الشرقية. وأمنت الطريق لتزويدها لوجستًيا بالسلع والغذاء.
تحت القصف الجوي الروسي والسوري المتواصل، يتعين على قوات المعارضة تثبيت وجودها في المناطق التي وصلت إليها، لإنهاء عمليات الكر والفر التي جرت في الأسبوع الماضي، بعدما تمكنت قوات النظام ومرتزقته من السيطرة على المداخل الشمالية للمدينة. وقطعت الممر اللوجستي الواصل بين حلب والحدود التركية.
جرى الآن إلهاء تركيا بتصفية آثار الانقلاب الذي تقول معلومات تركية إن ضباط المخابرات الأميركية أداروه من جزيرة قبالة منتجع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مرمرة. فلم تتمكن القوات الانقلابية التي هاجمته، من اعتقاله. أو تصفيته.
لكن هل يمكن اعتبار نجاح المعارضة في حلب كسًبا لأميركا؟! أميركا تدرب وتدعم فصائل «معتدلة» بين التنظيمات الدينية في حلب. ووافقت هذه الفصائل «الأميركية» على أن تقاتل جنًبا إلى جنب مع تنظيم «جبهة النصرة» الذي أعلن انفصاله الرمزي عن «القاعدة» ربما ترضية لأميركا. إذا كان ذلك صحيًحا، فهذا يعني أن التنسيق الأميركي الروسي أصيب بنكسة كبيرة، بعدما تملصت روسيا من تعهدها بإقامة هدنة أسبوعية في حلب.
المعارضات المسلحة ارتكبت أخطاء فادحة في الحرب السورية. تزمتها الدينيَنَّفَر السوريين منها. ثم هي شديدة المحلية. فترفض مغادرة مناطقها، لتشارك في إنقاذ تنظيمات ومناطق أخرى محاصرة. أيضا، التغيير السكاني يلعب دوره. هذه التنظيمات عجزت، كما عجز النظام، عن تجنيد عشرات ألوف الشباب الذين فروا من تزمتها. ومن قمع النظام وحربه المجنونة. في شرق حلب، يقيم اليوم الريفيون الذين حلوا محل المدنيين المهاجرين، فيما يتجمع تحت حماية النظام في غرب المدينة، ما تبقى من أسر مسيحية. وأقليات كردية. وأرمنية.
حرب المدن بالوعة الجيوش. استهلك نظام بشار شبيحته الطائفية. ويرفض الإيرانيون التطوع للقتال في سوريا. ويستعيض علي خامنئي. وقاسم سليماني عنهم، بتجنيد مرتزقة «حزب الله» من شيعة لبنان. والعراق. وأفغانستان. حكاية طائفة الهزارة الشيعية الأفغانية تستحق أنُتروى. فقد جرى إغراء شبابها بالقتال في سوريا، في مقابل السماح لأسرهم بالعيش في إيران. في معركة حلب، جرى الزج بشباب الهزارة في الميدان من دون تدريب كاٍف. ففتك بهم وبضباطهم الإيرانيين انتحاريو «داعش». والتنظيمات الدينية المسلحة التي نصبت الفخاخ لهم.
معركة حلب سوف تقرر مصير سوريا الشمالية، على الأقل. إصرار النظام على اقتحام حلب الشرقية. أو حصارها وتجويعها، يكشف تصوره بأنه قادر على استعادة سوريا كلها، بدعم وتأييد من إيران. وروسيا. لكنه يخسر معركة حلب، في الهجمات المضادة للمعارضات المسلحة. وخسر المعركة مع «داعش» في شرق سوريا. ويخسر معركته ضد الأكراد المدعومين أميركًيا وروسًيا، في شمال شرقي سوريا. وفي ريف حلب وفي وسط سوريا وجنوبها، تسيطر مرتزقة «حزب الله» على إقليم القلمون المجاور للبنان. وتسيطر التنظيمات الدينية على سهل حوران. والحدود الأردنية. وأطراف من الجولان المحتل إسرائيلًيا.
اللعبة الإقليمية والدولية شديدة التعقيد. والغموض. والتناقضات، في سوريا. اللاعبون ضموا أوراقهم إلى صدورهم، في انتظار الحسم في الميدان. إذا كسب النظام، فعلى العلويين انتظار دعم روسيا، في مواجهة مع إيران الطامعة في الهيمنة سياسًيا وديموغرافًيا على سوريا. ولا ينسى العلويون تكفير ملالي الخميني لهم. وإذا كسبت التنظيمات الدينية، فهي بحاجة إلى الإسلام التركي، للتخفيف من التزمت الإخواني.
و«القاعدي». وإذا انتصر أكراد سوريا، فعليهم إقامة وحدة إجبارية مع أكراد العراق. وهدنة مستحيلة مع تركيا التي تعتبرهم فاصلاً جغرافًيا ضد صلتها. وتجارتها، مع إيران. وعرب المشرق والخليج.
أما روسيا بوتين فقد أخطأت في الرهان على إيران ونظام بشار. كان من الأفضل لبوتين تبني التيار المدني السوري الليبرالي المعارض ضمًنا لشراسة النظام، وعلًنا لتزمت المعارضة الدينية. هذا التيار مع وحدٍة سوريا قائمة على ديمقراطية تعددية. ويوافق على استمرار روسيا في الاحتفاظ بقاعدتها البحرية في طرطوس.
أميركا أكثر اللاعبين غموًضا. وهي في انتظار الرئيسة المتوقعة هيلاري كلينتون، لتقرر ما إذا كانت ستواصل مسيرة أوباما وجون كيري وراء روسيا، لتمكين الأكراد من تقسيم سوريا. أم أنها ستراهن على تصفية «داعش» في سوريا والعراق. ومواصلة العلاقة الاستراتيجية مع النظام العربي التقليدي. ومطالبته بإصلاحات رمزية تجميلية.
يبقى أن أروي باختصار تاريخ حلب السياسي المعاصر. فقد طالبت تركيا، بعد الحرب العالمية الأولى، بضم حلب والموصل إليها. واحتلت لواء إسكندرون. واقتربت من حلب، بدفع الحدود من ذرى الجبال إلى المنحدرات السورية الجنوبية. لكن لماذا المطالبة بحلب والموصل مًعا؟ لأن المدينتين تتكاملان اقتصادًيا.
وكانت شركات الأسر الحلبية البورجوازية والإقطاعية تكفي سوريا من القمح والقطن. ثم تصدر الفائض من إنتاج ريف الموصل وحلب إلى العالم عبر الموانئ السورية.
في الصراع الإقليمي والدولي على سوريا والعراق، صمدت عروبة الموصل وحلب. أسقطت حلب تقسيم الانتداب الفرنسي لسوريا إلى دويلات. وظل هوى القيادة الحلبية لحزب الشعب ذي الأغلبية النيابية (1958/1954) وحدوًيا مع العراق. لكن عراق نوري السعيد عمل بنصيحة بريطانيا، بعدم توريط الجيش العراقي في سوريا، لإسقاط نظام أديب الشيشكلي ذي العلاقة الوثيقة مع مصر ودول الخليج.
من حلب زحف جانب من الجيش السوري متمرًدا على النظام. كان الشيشكلي قادًرا على القضاء على التمرد. لكنه كان أكثر حكمة ووطنية من بشار. فقد آثر الاعتزال والانسحاب، حرًصا على وحدة الجيش. وتفادًيا لنشوب حرب أهلية سورية.
عرفت حلب كيف تزدهر. فقد باتت عاصمة سوريا الاقتصادية. ولكن سياسة جمال عبد الناصر الاقتصادية ضيقت عليها. فأيدت أسرها الإقطاعية والبورجوازية الانقلاب الدمشقي على المشير عبد الحكيم عامر .(1961)
النظام العلوي كان أشد قسوة وظلًما. فانتزع فساده المبادرة الاقتصادية من حلب. تعاطفت المدينة مع الانتفاضة ضده (2011). فقرر بشار وإيران هدم عمرانها البشري والعمراني. وهكذا «إجا الطيار على الَنْبَعْه».
فارتفع عدد الضحايا إلى مائة. ثم ألف. ثم مائة ألف. حلب الشهيدة مع ريفها قدمت نحو نصف شهداء الانتفاضة (الـ400 ألف). ولا تكفي مياه النبعة (الفرات) لغسل دمائها.