اللغة خلف الزجاج

اللغة خلف الزجاج

اللغة خلف الزجاج

 تونس اليوم -

اللغة خلف الزجاج

سمير عطا الله
سمير عطا الله

عذراً ومسامحةً على تكرار الأمر، ولكن للأسباب الموضحة. منذ عدنا من لندن إلى بيروت، اكتشفنا العاصمة الشاطرة في كل شيء، إلا في السياسة، قد أضافت مساحة جديدة للحياة، هي الشرفة الزجاجية. ومنذ ذلك الوقت وأنا أعيش على الشرفة كل الأوقات، إلا نوم الليل. نوم النهار والقيلولة والغطّات العابرات، كلها في جناح زجاجي صغير مهما اشتدت عواصف الشتاء وغضب المطر، أو تزايد حر الصيف.
بسبب هذا السكن الزجاجي، أصبحت كائناً مناخياً. من الصباح إلى النوم، محكوم بمتابعة الطقس خارجاً. ومع تغيراته، أزداد اندهاشاً لهذه اللغة العبقرية وتعبيرها الصوتي المذهل. تَبيّن لي مثلاً أن في اللغات التي أعرفها تُستخدم كلمة «غيوم». فقط في العربية، يقال: «السُّحُب». تأمّلْها، الغيوم، تَنسحب على الدوام، من مكان إلى مكان. وإذا ما تجمّعت كثفت، طبقة فوق طبقة، قالت العرب: تلبّدت، فإذا تراجعت وانزاحت، قالت العرب، تبدّدت. الأدوات الصوتية نفسها. إيقاع يصوّر الجهامة والتلبّد، وبالأحرف نفسها، تنتقل إلى فعل التخفّف من العتوم، فتقول: إنها تتبدّد، الغيوم. تنقشع، أي تفسح المجال للرؤية. تنقشع. تنفتح. تتسع.
تعيدك الحياة على الشرفة إلى بحر المفردات في هذه اللغة الغنية بالصور. لقد فرّق البدوي بين الغيث والهطل والديمة، فإذا استشاط، كما يفعل أمامي الآن، فهو هتلان وتهتان، كما قال لنا الثعالبي.
يرافق هذا الهتل والتهتهة تذاؤب (هبوب مضطرب) وقصف وهبوب. وهل تريد يا أخا العرب أن تعرف أبدع الصور على الإطلاق، فاسأل عن معنى النميمة؟ «الصوت الخفيّ من حركة الريح». انظر إليه. (أو إليها) يتصنع الهمس، ويضع يده على جانب فمه، نصفاً لكي تسمع، نصفاً لكي لا يسمع الآخرون. ماذا يفعل؟ إنه ينمّ. مخلوق ضئيل ليس لديه شيء عن نفسه يحدّث به، فيحدّثك عن ضعف الآخرين.
هذه الدناءات ورثها الإعلام الحديث وحوّلها إلى صناعة. مخلوقات خفية ليس لديها ما تعتزّ به، فتبحثُ عن عملها في شتم الآخرين. تكذِّب وتزوِّر وتكره وتحقد وتحاول إقناع السذَّج بأن هذه هي الحقيقة، وليست النميمة.
لكن لأنها صناعة الخفاء ووليدة الجبن، فإن النميمة لا تعيش طويلاً. وصاحبها يُحرم من حياة الضوء. يعيش نصف حياة، يده دائماً تُخفي نصف فمه.
من خلف هذا الزجاج، أتأمل بيروت، تحت العاصفة، أو مغتسلةً بعدها، في الريح وفي النسيم، وفي الخوف. وإذ يأتي المساء تدخل المدينة التي كانت يوماً «عاصمة الإشعاع» في دياجير الظلام. قالت العرب دجر تحيَّر، ودجر الناس، وقعوا في اختلاف وفتنة. وفتنة اسم امرأة قيل إنها كانت جميلة في نومها، فقال أحدهم اتركوا فتنة نائمة، لا توقظوها.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللغة خلف الزجاج اللغة خلف الزجاج



GMT 07:40 2021 الثلاثاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لا 99 ولا 100

GMT 10:52 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الصين جزء من المشكلة لا من الحلّ

GMT 10:49 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حاكم العراق يقلِّب جمرتين

GMT 10:47 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

بيان تعليق عضوية

GMT 09:34 2021 السبت ,09 تشرين الأول / أكتوبر

السادة المبعوثون

GMT 18:37 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 17:58 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 21:59 2018 الجمعة ,14 كانون الأول / ديسمبر

قطاع غزة يحتضن بطولة قفز الحواجز بمشاركة 41 فارسًا

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية

GMT 15:59 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

تواجهك عراقيل لكن الحظ حليفك وتتخطاها بالصبر

GMT 08:07 2021 الأحد ,24 كانون الثاني / يناير

أنواع الأبواب الخشبية وكيفية اختيار أنسبها بحسب حاجتك

GMT 05:40 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

مرسيدس تعلن عن سيارتها الكهربائية بالكامل "اي كيو أيه"

GMT 10:51 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 11:06 2021 الأحد ,28 شباط / فبراير

شركة "سامسونج" تخفض سعر هاتف Galaxy S21
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia