مصطفي الفقي
الأصل فى الفكر الليبرالى أن تتعامل مع المشهد السياسى بانفتاح كامل، وأن تفصل بين العلاقات الإنسانية والمواقف السياسية، وأن تكون لديك سماحة الإمام «الشافعى»، إذ يقول رأيى صوابٌ يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأٌ يحتمل الصواب، وأن تكون لديك أيضًا شجاعة «فولتير» حين يقول «إننى مستعد لأن أدفع حياتى ثمنًا لحرية رأى أختلف معه»، كانت هذه هى قناعاتى ولاتزال وسوف أظل أقول ذلك بمناسبة إذاعة «تسريب» لمكالمة هاتفية بينى وبين د.«عصام العريان» القيادى فى جماعة «الإخوان المسلمين»، وذلك للتهنئة بقيام حزب «الحرية والعدالة» عام 2011، وهو «تسريب» يؤكد مواقفى المعلنة خصوصًا وأننى واحد من أولئك الذين يتمتعون بأكبر عدد من التسجيلات الهاتفية لمكالماته عبر العقود الثلاثة الأخيرة، لأنه من المعروف عنى التحدث بما أريد فى الوقت الذى أشاء، لذلك علىّ أن أتحمل دائمًا مسؤولية ما أقول فى وقته وفى ظروفه ولعلى أسوق للصديق الذى أذاع هذا التسريب الملاحظات التالية:
أولاً: لقد كنت معنيًا بالجانب الفكرى لتمثيل تيار إسلامى معتدل فى الحياة السياسية المصرية حلًا للمعضلة الموروثة فى العقود الأخيرة للعلاقة بين الدين والسياسة فى الدولة المصرية بل فى العالم الإسلامى كله، ولقد ألقيت محاضرة فى عام 1993 - بعد عام واحد من تركى مؤسسة الرئاسة ــ فى المعرض السنوى للكتاب وهو تقليد حرصت عليه لأكثر من 20 عامًا خصوصًا أثناء وجود الدكتور «سمير سرحان»، رحمه الله، الذى كان يفتح منبراً لحرية الرأى بشكل يحسب له دائمًا، وقد كان عنوان المحاضرة «نحو تمثيل سياسى شرعى للتيار الإسلامى»، وقد سعدت يومها بحضور الكاتب الكبير عادل حمودة فى صفوف المستمعين، لأنه أدرك بحاسته الصحفية أن لموضوع المحاضرة أهمية خاصة، وطالبت فى محاضرتى جماعة «الإخوان المسلمين» ـــ ولم أستعمل يومًا عبارة «المحظورة» أو «المنحلة» ـــ لأننى كنت أمام وجود سياسى لهم فى الشارع، رغم اختلافى معهم، وطالبت الجماعة يومها بأن تعلن نبذ العنف ورفض الإرهاب والخروج من عباءة الاغتيالات التاريخية وأن تقبل بأن الأمة هى مصدر السلطات وأن تداول السلطة ودوران النخبة أمور حتمية، وقلت «إن من يقبل النزول إلى الملعب السياسى علنًا عليه أن يلتزم بقواعده المستمدة حاليًا من الديمقراطية الغربية». ولم يحاسبنى أحد ولم يؤاخذنى مسؤول على ما قلت فى وقت كنت فيه محسوبًا على نظام الرئيس الأسبق «مبارك» بعد عملى معه قرابة ثمانى سنوات.
ثانيًا: ربطتنى بالدكتور «عصام العريان» علاقة طويلة منذ ثمانينيات القرن الماضى حين كان يأتى إلى مكتبى فى مؤسسة الرئاسة ويفتح حوارًا معى حول دور الجماعة وما يمكن أن نسعى إليه من أجل وفاق سياسى على أرض وطنية مصرية، وقد ذكّرنى المحامى الكبير مختار نوح وهو قطب إخوانى سابق بأن المرشد العام الراحل «عمر التلمسانى» قد أوفده إلىّ فى السنوات الأولى لحكم الرئيس الأسبق «مبارك»، فى محاولة جادة لفتح قناة اتصال بين الجماعة ورئيس الدولة، وفى هذا السياق التقيت أيضاً بالأستاذ «أحمد سيف الإسلام البنا» المحامى وابن المرشد العام الأول، وليت «الإخوان» قبلوا فى ذلك الوقت شروط النظام القائم للانضواء تحت مظلته.
ثالثًا: لم يهاجم «الإخوان المسلمون» شخصًا مثلما فعلوا معى بعد انتخابات «دمنهور» وحتى بعدما صدر رأى محكمة النقض ــ الهيئة القضائية العليا فى الدولة ــ بانتفاء شبهة التزوير فى تلك الانتخابات، وقد أصدرت المحكمة رأيها مرتين: مرة فى عهد الرئيس الأسبق «مبارك»، ومرة أخرى فى عهد الرئيس الأسبق «مرسى»، وقد حاصرنى «الإخوان» دائمًا بحملة إعلامية معادية ورأوا فى شخصى صيدًا ثمينًا يضربون النظام القائم من خلاله، ومع ذلك اتسمت علاقتى بأعضاء «الجماعة» داخل البرلمان بالمودة العادية، شأن علاقتى مع كل من هم على المسرح السياسى، سواء كانوا مؤيدين أو خصومًا، فقد كان الدكتور «محمد مرسى» على صلة إنسانية طيبة بى ولجأ إلىّ عندما جرى اعتقال أحد أبنائه وهو يحمل الجنسية الأمريكية، ولكن أباه رفض استخدامها فى المطالبة بالإفراج عنه، وذهبنا إلى الدكتور «زكريا عزمى» رئيس ديوان رئيس الجمهورية وعضو المجلس، الذى تدخل للإفراج عن ذلك الفتى، وكان الدكتور «سعد الكتاتنى» عضوًا فى «لجنة العلاقات الخارجية» التى كنت رئيسها وأعطيت أعضاء اللجنة من جماعة «الإخوان المسلمين» حرية متساوية لإبداء الرأى أمام الوفود الأجنبية، وكنت ولا أزال مؤمناً بالليبرالية الحقيقية وليست الليبرالية الكسيحة كما أراها أحيانًا.
رابعًا: حضرت احتفال الإعلان الرسمى عن قيام حزب «الحرية والعدالة» كأول حزب شرعى معلن لجماعة «الإخوان المسلمين» منذ نشأتها، وحضر تلك الاحتفالية «ألوان الطيف» السياسى المصرى بالكامل بمن فيهم عدد من الوزراء وكبار المسؤولين، فقد كنا نأمل خيرًا فى إدماج الجماعة فى الحياة السياسية الشرعية والعلنية بالبلاد، وفى هذا السياق جاءت مكالمتى للدكتور «عصام العريان» مهنئًا بقيام حزبهم.
ولقد استقبلنى فى احتفال إعلان الحزب الدكتور «مرسى» والدكتور «الكتاتنى» وكل قيادات الجماعة بحفاوة وتقدير، وكنت قد قابلت المهندس «خيرت الشاطر» مصادفة فى سجنه عندما كنت أزور سجينًا آخر من أسرة صديقة، متهمًا فى قضية شهيرة، وعندما جرى الإفراج عن «الشاطر» جرت بينى وبينه مكالمة هاتفية ودية، ولكن عندما اتصلت به قبيل انتخابات الرئيس الأسبق «مرسى» وجدته مختلفًا ولم يرد علىّ بالصورة التى كنت أتوقعها فانتقدت ذلك علنًا فى الصحف والمحطات الفضائية، للتدليل على حالة الغرور التى كانت قد بدأت لدى بعض عناصر الجماعة.
خامسًا: اتصل بى الأستاذ «مهدى عاكف» وهو مرشد عام للإخوان ليقول لى «إنك منصف، فأنت ضد فكر الجماعة ولكنك تكتب وتتحدث باحترام نقدره». كما كتب لى الأستاذ حسين إبراهيم، المسؤول عن جماعة الثمانية والثمانين إخوانيًا بالبرلمان مع زميله الدكتور الكتاتنى، رسالة عزاء بخط اليد أثناء جلسة المجلس بمناسبة وفاة والدة زوجتى، وكانت رسالة تفيض أدبًا ورقة وفيها حس إنسانى يرتفع بالعلاقة بين البشر فوق مسارات الاختلاف فى الرأى، كذلك ربطتنى علاقة مودة بالدكتور «أحمد فهمى» الذى كان رئيسًا لمجلس الشورى، وقدرت للرجل دائمًا اعتداله وتواضعه حين كان فى موقعه، أما الكاتب الصحفى الأستاذ «محمد عبد القدوس» فإن له مكانة كبيرة فى عقلى وقلبى نتيجة دوره الوطنى ودفاعه عن الحريات مع انتمائه فكريًا لجماعة «الإخوان المسلمين»، وبذلك فإننى أقول للصديق الذى قام بتسريب نص المكالمة «لقد فعلت خيرًا إذ أعطيتنى الفرصة للحديث عن جانب من جوانب شخصيتى فى التعامل مع الغير والذى كنت ولا أزال حريصًا عليه، برغم كل الأزمات والضغوط فى كل العصور السياسية التى عايشتها، ولقد انتقدت الإخوان بضراوة فى سنة حكمهم، وليرجع الجميع إلى مضمون ما قلته فيهم من غياب للكوادر السياسية وافتقاد لرجال الدولة وخلط بين الوطنية المصرية والأممية الإسلامية، حتى إن الدكتور مرسى طلب شخصيًا عدة مرات من وزير الخارجية حينذاك ــ وهو زميل عمرٍ نجح فى حماية الجهاز الدبلوماسى من محاولات «الجماعة» العبث به ــ إقصائى عن لجان اختبارات الامتحان الشفهى للدبلوماسيين الجدد، رغم وجودى فيها لأكثر من 20 عامًا أو يزيد.. وهكذا كنت دائمًا ضحية ضيق النظرة من جانب «دراويش» الحياة السياسية الذين يؤمنون بالمواقف الحدية دون وعى أو بصيرة. وفى الختام لقد قلت وسوف أقول دائمًا إن تأييدى للرئيس السيسى ينبع من تقدير وطنى عميق لشجاعته فى رفع صخرة ثقيلة تكلست وتجمدت عبر ثمانين عامًا وكادت تهوى على عقل «مصر» وهويتها، فكان له استحقاق الشعبية الكاسحة والمضى معه على طريق إصلاح أحوال البلاد والعباد، شكرًا مرة أخرى للصديق الذى أذاع «التسريبة» موضوع هذا المقال!