أسير أقوى من الآسر

أسير أقوى من الآسر

أسير أقوى من الآسر

 تونس اليوم -

أسير أقوى من الآسر

بكر عويضة
بكر عويضة

لا الأسر واحد، وما الأسرى سواء. حقاً، ثم الأسير المقاوم، من جذر إيمان القلب بعدالة قضيته، ينبع بئر صمود الصبر على جبروت الآسر، فيشع نور فضاء الحرية بين ضلوع الصدر، ويهون الآتي من ظلام معسكر الاعتقال، وظلم السجان السادي، فور أن تطأ القدم مدخل سجن يظن الغازي المحتل أنه قبر من أسر، ويراه الأسير محطة في مشوار انعتاق شعبه من أسر

الاحتلال. هكذا أسير صامد لن يخضع لأي ابتزاز، ولن يخاف تجاوز أسس حقوق الإنسان، المثبتة في مواثيق دولية، وتكفل لأسرى الحروب حق التعامل الكريم مع احتياجاتهم الإنسانية كلها، وسوف يهز ذلك الأسير المقاوم الكتفين، بكل ما تحملان من أثقال آثار التعذيب، هازئاً كلما ظن الغاصب أن الضحية أوشك على الاستسلام.

إنما، هناك أيضاً أسير محتمل أن يخاف بطش الآسر، رغم أنه اقتحم الميدان مقبلاً على الموت، فقد هيأ النفس كي تتقبل التضحية بها في سبيل ما آمن به. لكن استعداد الجندي، أو مقاوم المحتل، لأن يقتل فوراً في ساح القتال يختلف عن القدرة على تحمل الموت البطيء تحت التعذيب. ضمن هذا الفهم، يمكن تلمس العذر لمن يضعف فجأة، إذ يتلقى التعذيب طوال النهار، ويرى سادية السجان تمارس مع الغير بأقسى مما تخيل، ثم إذا أتى الليل تصدع في الرأس أصوات أنين آلام الآخرين تمزق عتمة الليل في الزنازين المجاورة، وإذ يتتابع السيناريو ذاته يوماً بعد آخر، قد يحس ذلك الأسير أن لحظة انتعاش للرغبة في العيش سرت فجأة مسرى الدم في العروق، فتنمل إحساس القدرة على تحمل مزيد من الألم، تجمد النفس المقاوم، وتسلل إلى السمع منه صوت ضعف النفس البشرية: كفى، لا أريد الموت، ليس بعد، ما المانع أن أحيا؟ يطل صباح اليوم التالي، فيقبل الأسير، بقلب مثقل بالحزن، مطالب الآسر لتخفيف حمل العذاب، كأن يوقع صك اعتراف، مثلاً. إذا توقف ذلك الضعف عند ذاك الحد، يمكن للنتيجة أن تبقى في إطار متقبل. الأخطر هو تطور لحظة الضعف تلك، إلى استعداد للعمل مع السجان، والانتقال من خندق شرف الأسر إلى زقاق التعامل مع محتل يأسر كل الوطن. ذلك وضع، حين يقع، يكون له وقع صادم، وسوف تترتب عليه ارتدادات لأعوام طويلة. الواقع الإنساني يثبت وجود الحالتين، عبر كل الأزمان، وفي مختلف الثقافات، فحيث وقعت حروب، وانفجر صراع بأي من بقاع الأرض، وقع جنود في الأسر، منهم من صمد حتى النفس الأخير، فرفض التنازل قيد أنملة عن المبدأ في مواجهة إغراءات فك قيد أسره. وبينهم من اكتفى بالخضوع للضعف، آملاً بسنوات سجن بلا كثير آلام، أما الذي مضى في إذلال الضعف أبعد، وباع الروح للخصم، فقد خسر النفس، ولم يربح حتى احترام من توهم أنه الشاري.
طوال سنوات مقاومة أجيال الفلسطينيين محاولات انتزاعهم من أرض أجداد أجدادهم، قبل نهوض إسرائيل الدولة، ضرب أسراهم، رجالاً ونساءً وأطفالا، سواء الذين كانوا خلف قضبان الانتداب البريطاني، أو الواقعين بعدهم في قبضة السجان الإسرائيلي، أكثر مما يحصى من أمثلة الصمود، رافضين أي تنازل، مهما بدا مغريا الثمن، وأياً كان حجم المعاناة، ومهما طال الأمد. ضمن هذا السياق، لفتني الاثنين الماضي حفل إطلاق كتاب «للسجن مذاق آخر»، الذي تمكن الأسير الفلسطيني أسامة الأشقر من تأليفه فيما هو يمضي ثمانية أحكام بالسجن المؤبد. إضافة إلى ذلك، تضمن الحفل الإنترنتي إعلان عقد قران أسامة على خطيبته منار خلاوي، بحضور شخصيات فلسطينية وعالمية. هذا انعتاق حر في الفضاء الإنساني من أسر سجان فشل في أن يحبس أماني الأسير خلف القضبان، فتألق أسامة الأشقر ليس صموداً فحسب، بل عطاءً يشع إبداعاً كذلك. أقدر كثيراً للشاعرة والكاتبة الفلسطينية لينا أبو بكر، التي شاركت من لندن في التحضير للحفل في رام الله، أنها لفتت انتباهي لهذا الحدث المتميز حقاً، وهو اهتمام متوقع من جانبها، إذ خصصت لينا الجانب الأهم من حيز جهدها لقضايا الأسرى، وأسست موقع «أسرانا» الإنترنتي لأجل هذا الهدف. حقاً، لقد أثبت فلسطينيون أسرى كثر، بدءاً بالقدامى، بينهم مثلا نائل البرغوثي، وكريم يونس، وماهر يونس، إلى الشبان منهم، كما مروان البرغوثي، وسامر العيساوي، وماهر الأخرس، وأسامة الأشقر، أن الأسير يبقى هو الأكثر حريةً، والأقوى إرادةً.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أسير أقوى من الآسر أسير أقوى من الآسر



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 17:57 2021 الإثنين ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

مؤشرات التشغيل تؤكد ارتفاع نسبة البطالة في تونس

GMT 13:47 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

العلماء يثبتون فوائد التفاح للدماغ

GMT 13:34 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

دجالون يدعون الإشفاء من السرطان والسّكري

GMT 08:43 2021 السبت ,30 تشرين الأول / أكتوبر

وزير السياحة يؤكد تحسن المؤشرات السياحية في تونس

GMT 14:27 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

علاء الشابي يتحدّث عن اخطاء مهنية قاتلة للتلفزات التونسية

GMT 07:51 2016 الخميس ,15 أيلول / سبتمبر

المكياج الليلي

GMT 07:03 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

جيش البحر يحتجز مركب صيد مصري على متنه 17 بحارا

GMT 06:30 2020 الخميس ,08 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل الإجراءات والقرارات الخاصة بتونس الكبرى

GMT 09:11 2016 السبت ,14 أيار / مايو

الألوان في الديكور

GMT 17:56 2020 الجمعة ,25 كانون الأول / ديسمبر

توقعات بنزول امطار وارتفاع نسبي لدرجات الحرارة فى تونس

GMT 05:00 2020 الثلاثاء ,15 أيلول / سبتمبر

تعرف على أجمل الشلالات في البيرو لعطلة لا مثيل لها
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia