بقلم -مصطفي الفقي
استأثرت مكتبة «الإسكندرية» هذا العام باستضافة الاحتفال الكبير بالذكرى المائة والخمسين لافتتاح «قناة السويس»، وهى ذلك المرفق المصرى الدولى الذى أثر تأثيرًا كبيرًا فى السياسة الخارجية المعاصرة للدولة المصرية حتى سمعنا الشعار التاريخى الذى يقول «نريد القناة لمصر لا مصر للقناة»، وهى ذلك الممر المائى الحيوى الذى حفره الفلاحون المصريون بالسخرة حتى سقط من بينهم عشرات الألوف من الشهداء الذين اختلطت دماؤهم برمال الصحراء وهم يشقون الأرض تحت الشمس الحارقة وفى ظروف إنسانية صعبة للغاية، ولا شك أن حفر «قناة السويس» قد أدى إلى تعزيز مكانة مدينة «السويس» وإنشاء مدينتى «الإسماعيلية» و«بورسعيد» وبرغم أن «القناة» قد عزلت جغرافيًا أرض «سيناء» إلا أنها زادت إنسانيًا ارتباطها بالوطن الأم وجعلت منها جزءًا لا يتجزأ من الوطن المصرى الذى تمتد خريطته إلى فجر التاريخ حتى تبدو كأنها وثيقة ثابتة لا تتغير عبر السنين والأحقاب والعصور، لقد أعطت «قناة السويس» لمصر ميزات متعددة يمكن رصدها فى النتائج التالية:
أولًا: لا يجادل أحد فى أهمية الموقع الاستراتيجى للدولة المصرية فهى تقف على ناصية أفريقية آسيوية مع مواجهة مباشرة للقارة الأوروبية، فضلًا عن أنها أكبر دولة فى جنوب المتوسط ولكن رغم ذلك كله فإن وجود هذا الممر المائى الحيوى الذى يربط بحرين مفتوحين هما «الأحمر» و«الأبيض» قد أضفى أهمية متزايدة على «مصر» وموقعها الفريد لذلك فإننا نزعم أن حفر «القناة» كان إضافة إيجابية للدولة المصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ثانيًا: لقد أدى حفر «القناة» إلى عُزلة جغرافية ظاهرية «لشبه جزيرة سيناء» لكنه ربطها بمصر على المستويين الاقتصادى والسكانى بصورة مختلفة وجعل من «سيناء» جزءًا من وطنها الأم لا ينفصل عنه ولا يبتعد عن نمط الحياة فيه، فقد أسهم حفر «القناة» فى قيام المدن على شاطئيها من الجانبين فى تدعيم الكتلة السكانية للمناطق الشرقية الشمالية من الخريطة المصرية.
ثالثًا: لقد أزكت «قناة السويس» بوجودها الجغرافى والاستراتيجى روح الوطنية المصرية بدءًا منها مشروعًا على الورق مرورًا بها قناة مصرية تحت سيطرة بريطانية فرنسية وصولًا إلى حدث «التأميم» بملابساته وتداعياته، إنها «القناة» التى ترتبط بها أسماء معروفة فى تاريخنا الحديث بدءًا من الوالى «محمد سعيد» مرورًا بالخديو «إسماعيل» وصولًا إلى مواجهة «عرابى» للوجود الأجنبى حتى تتوجت بقرار «عبدالناصر» تأميم هذه القناة قبل ثلاثة عشر عامًا من انتهاء عقد امتيازها.
رابعًا: لقد ضخت القناة قدرًا لا بأس به من الأموال فى الخزانة المصرية ورغم استفادة أطراف أخرى أكثر من «مصر» صاحبة الأرض ومالكة الممر المائى وحامية التراب الوطنى.
خامسًا: لقد أسهمت «قناة السويس» فى عملية التحديث العصرى نتيجة الوجود الأجنبى فى مدنها وإسهام ذلك فى مستقبل «مصر» والأجيال الجديدة من شعبها العريق فى الارتقاء بالمصريين وما جلبته القناة من خبرات أجنبية هى أمور تؤكد أن حفر «القناة» كان جزءًا من عملية تحديث الدولة المصرية.
إن الاحتفالية التى أقامتها «مكتبة الإسكندرية» وحضرها ممثلون رفيعو المستوى من هيئة القناة، على رأسهم الفريق «مهاب مميش» وأصدقاؤها فى «فرنسا» والمهتمون بشؤونها من أنحاء العالم، فضلًا عن عدد من المفكرين والمحللين والخبراء بصورة أعطت الاحتفالية مذاقًا خاصًا وجعلتها تسجيلًا تاريخيًا يؤكد أن السياسة المصرية قد تمحورت عبر قرن ونصف حول «القناة» بمزاياها ومشكلاتها، بما لها وما عليها، فمن المؤكد أن القناة قد أثرت فى تاريخنا المعاصر مثلما لم يؤثر عامل آخر، ولعلنا نتذكر أيضًا إغلاق «القناة» ثم إعادة فتحها بعد سنوات ثمانى جرى فيها إغلاقها منذ «نكسة 1967».. وسوف تبقى «القناة» شاهدًا على العصر ورمزًا لإرادة الشعب المصرى فى الأوقات الصعبة والظروف الحرجة