متذمراً، كان حافظ الأسد يتساءل: هل في وجه سورية وحدها يُرفع شعار: «القرار الفلسطيني المستقل»؟ الذي وصفه بـ «البدعة». هذا في زمن كانت فيه سورية تحيق بلبنان والوجود الفلسطيني فيه كما الإسوارة في المعصم.
سورية الدولة ركيزة «بلاد الشام»، وعندما قال «البعث» السوري إن فلسطين هي سورية الجنوبية، ردّ عرفات مداعباً: كما أن سورية هي فلسطين الشماليةّ، ما أثار حنق الأسد الكبير!
حسناً، من زمن الأسد الكبير إلى زمن الأسد الشبل، تحولت سورية العريقة من لاعب إقليمي إلى لعبة دولية، وإن بقيت في الشعار ركيزة «محور الممانعة»، والتي كانت تحتل لبنان، صارت، إلى الجولان المحتل متعددة الاحتلالات: روسية، إيرانية، تركية.. وحتى أميركية.
روسيا هي الزاوية القائمة في مثلث الحل السياسي السوري، إلى جانب إيران وتركية دون حضور الأسد الشاب، وهي زاوية في مثلث متساوي الأضلاع في الحل الأمني، إذ يعقد في إسرائيل مع منتدى المنامة، لقاء قادة المخابرات الروسية، الأميركية والإسرائيلية.
القرار المستقل الفلسطيني الذي رُفع في وجه سورية، صار سياسة فلسطينية مستقلة، مع أن إسرائيل تحيق أمنياً بفلسطين السلطوية مثل الإسوارة في المعصم.
ها أن محور الممانعة يحيّي صمود محور المقاومة السياسية الفلسطينية لـ «صفقة القرن» ومنتدى اليمامة، رغم أن دول الجوار العربي لفلسطين السلطوية ستحضر ـ ولو على مستوى مخفوض ـ ورشة انطلاق الشق الاقتصادي. سورية لن تحضر لأنها غير مدعوة، ولبنان مدعو ولن يحضر لأسباب خاصة، أبرزها معارضته لتوطين اللاجئين الفلسطينيين.
هل حقاً الاعتراض على شق سياسي مؤجل في «الصفقة» في حين أنه بدأ باعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالانسحاب الأميركي من «حل الدولتين» وهو في الحقيقة مسمّى سياسي ـ دبلوماسي لـ «الدولة الفلسطينية المستقلة».
كما نعرف، للدول شروط تعريف، منها الحدود المعترف بها، وكذا دستور دائم. إسرائيل لا تحدّد لها حدوداً، بينما تحدّد فلسطين السلطوية حدوداً لها، على أساس حدود خطوط 4 حزيران 1967.
إلى هذا، لإسرائيل وثيقة إعلان الاستقلال، وملحق بها جملة متتابعة من قوانين أساس، آخرها: «إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي»، في حين أقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني الأول المنتخب، دستوراً مؤقتاً لدولة فلسطين، والشرعية الدولية تعترف بها وحدودها ودستورها المؤقت، ولا تعترف بحدود إسرائيل الاحتلالية التي بطّلت تميز، أخيراً، بين حدود الأمن وحدود السيادة.
لا تعترف دولة إسرائيل لا بدولة فلسطين المعلنة، ولا بحق تقرير المصير الفلسطيني، ولو أن الولد كوشنير لوّح بهذا الحق، لكن ادعى بأن الفلسطينيين وسلطتهم ليسوا جديرين به وقادرين عليه في الوقت الحاضر.
أليس موقف الممانعة والمقاومة السياسية للصفقة دليل جدارة بالقرار المستقل الذي صار سياسة مستقلة، في وجه قرار وسياسة الصفقة؟
عندما رفع عرفات شعار القرار المستقل في لبنان، ادعى الوسيط فيليب حبيب أن إخراج قوات المنظمة من لبنان هو قرار دولي. قال عرفات: لو كانت بيروت مدينة فلسطينية لما خرجت منها.
الآن، السلطة على أرضها، وتستطيع سياستها الوطنية أن ترفض إعطاء شهادة زور لدخول «الصفقة» بشقيها الاقتصادي والسياسي. في إضرابات أسرى فلسطين، يُرفع الشعار: «الجوع ولا الركوع» وفي وجه أميركا وإسرائيل ترفع السلطة شعاراً هو «الجوع ولا الخضوع»!
في أول حقبة السلطة رفع عرفات لبناء الدولة شعار «روتشيلدات فلسطين» وشعار «مشروع مارشال»، وعشية منتدى المنامة، وافق وزراء مالية دول العرب على إنفاذ قرار القمم بشبكة أمان اقتصادية بقيمة 100 مليون دولار شهرياً لتعويم السلطة من خطر الانهيار المالي.
السؤال: إن تلكّأ العرب بهذا المبلغ اليسير، فكيف عليهم دفع عشرات المليارات لتسليك الشق الاقتصادي من الصفقة؟
أميركا هي من موّل مشروع مارشال الأوروبي، وتريد من العرب تمويل ما يماثله في «الصفقة»، لكن الأول كان لإعادة بناء دول معترف بحدودها، بعد تعديلات طفيفة في الحرب، بينما لا يعترف مشروع فريق كوشنير بحدود دولة فلسطين، ولكن يعترف بحق إسرائيل في ترسيم حدودها!
يُقال إن بعض دول العرب تخلّت، عملياً، عن اعتبار فلسطين قضية مركزية لها، وإن لم تجرؤ بعد على قول هذا رسمياً، لكن مشروع «الصفقة» بدلالة توزيع الأموال، يعترف عملياً بأن الشرق الأوسط الجديد يبدأ بالعقدة الفلسطينية وحلحلتها بترويض عقدة الرفض السلطوي والشعبي، وليس بجلب بعض «الطراطير» والإمّعات من الفلسطينيين.
الوضع صعب، وسيغدو أصعب حتى خريف هذا العام.
نعوت ومفردات اللغة!
قرأت في ذيل مقالة أدبية ـ نقدية أنها: «تستحق التقدير، والإعجاب، والقراءة» فتذكرت في طفولتنا المدرسية أن الشاطرين كانوا ينالون رقعة كرت يتدرج من الاستحسان، إلى مرحى، إلى التقدير. لماذا لم يُنه الناقد موضوعها هكذا: القراءة، والإعجاب والتقدير!