قبل ثلاثين سنة، لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي على ما هي عليه، حالياً، من سطوة. بعد ثلاثين عاماً من صدور كتابه الرائد: «صناعة القبول في إدارة الإعلام الغربي»، سُئل عالِم الألسنيات الأشهر، الأميركي اليهودي نعوم تشومسكي عن مصادره في كتاباته، كمؤرخ، أيضاً، وناشط سياسي، فقال أستاذ الألسنيات في معهد ماساتشوستس (50 عاماً) إنها أساساً، صحف رصينة مثل: «نيويورك تايمز» ثم «واشنطن بوست»، بعيداً عن كم هائل من معلومات قد تكون مضللة في وسائط التواصل الاجتماعي.
الرئيس ترامب، قد يكون «السيد تويتر» وبه احتذى ساسة، كبار وصغار، ومثقفون وصحافيون، لا يوفرون شاردة وواردة في ردود، سريعة وعصبية، دون تمحيص غالباً. هذه حرب سبرانية عالية المستوى، أو منحطّة.
يزعم نشطاء «الفيسبوك» وأضرابه أن الصحافة الورقية آفلة، وهذا الزعم واقعي لكن ليس صحيحاً على إطلاقه، فالصحف الرصينة القليلة تضرب الذكر صفحاً عن نشر وتداول سفاسف في وسائل التواصل الاجتماعي.
لا رقيب ولا حسيب على «المعلومة» في هذه الوسائل، إلاّ صاحبها، خلاف «رقابة ذاتية» ومهنية في الصحف الرصينة، بينما تحاول الفضائيات، وهي موجهة غالباً، التوفيق بين الأمرين.
منذ موقف رسمي صارم من «صفقة القرن»، ومنذ بدء ترتيب الدعوة لـ «ورشة المنامة» وأثناء انعقادها وبعدها، روفق ذلك بحملات عربية ـ فلسطينية متعاكسة على «الفيسبوك» بالذات، بينما كان الموقف الفلسطيني الرسمي ينتقد حضوراً عربياً لها، دون تحديد دولة عربية بذاتها، كانت آراء فلسطينية على «الفيسبوك» حادة ومحددة، وخاصة في الرد على تصريحات منسوبة لرسميين عرب، وبالذات على دعاة أو متثاقفين عرب، شطحوا ونطحوا ليس في سياسة السلطة الرسمية، بل في الفلسطينيين بعامة.
واحد سعودي الجنسية، اسمه الشمّري، طعن في كرامة الفلسطينيين «الشحادين» وادّعى بأن القدس يهودية، والحرم القدسي معبد يهودي، بينما نُسب إلى وزير خارجية البحرين، بأن إسرائيل دولة شرعية، ولها حقوق يهودية في أرض فلسطين، وأنها تنتظر من فريق الصفقة إعلانه الشق السياسي لتطبع علاقات رسمية مع إسرائيل.
بينما تجاهلت السلطة الرد على ذلك النفر السعودي والوزير البحراني، أشاد رئيس السلطة (تحت انتقاد «فيسبوكي») بموقف السعودية الرسمي من التمسك بالمبادرة العربية للسلام، وبالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وامتدحت حملة «الفيسبوك» موقف شعب البحرين المعارض للورشة. كذا امتدحت موقف الكويت، الرسمي والشعبي، من المشروع الأميركي، خطواته وتداعياته.
الكويت الشقيقة ضربت الذكر صفحاً عن موقف سابق وحاد لها من منظمة التحرير والفلسطينيين قاطبة، بعد الاجتياح العراقي، واعتبارهم من (دول الضد).. عفا الله عمّا سلف.
في الذاكرة، أن فدائيي المنظمة اثناء خروجهم من بيروت، هتف بعضهم «إحنا مش عرب» لكن الشاعر نزار قباني، كتب: «الفلسطينيون أوّل العرب.. وآخر العرب».
لا أعرف من ادّعى أن العرب يحبون فلسطين ـ القضية، ولا يحبون الفلسطينيين شعباً. ربما الفلسطينيون شعب عربي مؤتلف ـ مختلف، وكذا النضال الفلسطيني مؤتلف مع نظام ودولة عربية بعينها، ثم مختلف مع سياسته اللاحقة إزاء اللجوء الفلسطيني. والسياسة الفلسطينية التي استقرت بعد قيام السلطة على عدم التدخل في الشأن العربي، مع التذمر الصامت الرسمي من تدخلها في الشأن الفلسطيني، ولكن الموقف الشعبي الفلسطيني الصاخب والحاد من تدخلها.
فلسطين ليست بلداً مستقلاً بعد، وإن لها رسمياً سياسة مستقلة، برهنت عليها منذ أوسلو، وخاصة منذ إعلان «صفقة القرن». لكن حتى الدول العربية المستقلة، وشعوبها، أيضاً، لها حساسيات صغيرة إزاء بعضها البعض. مثلاً: الفلسطينيون يقدرون تونس، رسمياً وشعبياً، وكذا الجزائر.. لكن فوجئت بحساسية التوانسة من الجارة الجزائر، وهذه وحساسيتها من الجارة المغرب، واليمن وحساسيته من الجارة السعودية، وحتى إمارة قطر وحساسيتها من جيرانها الخليجيين.
بل لكل بلد حساسية داخلية: الشوام والحمامصة في سورية، وفي مصر إزاء الصعايدة، وفي موريتانيا العربية إزاء مواطنيها الأفارقة.. حتى في فرنسا الدولة العلمانية المركزية، هناك حساسية بين الباريسيين وسكان إقليم «بروفانس» وإيطاليا بين شمالها وجنوبها، وكذا سويسرا بين الكانتون الألماني وذاك الإيطالي.
قال لي صديق شامي من حي القيمرية: الشوام شايفين حالهم على بقية السوريين، فكيف أن الفلسطينيين اللاجئين شايفين حالهم على الشوام. وفي بيروت، يقول رواد شارع الحمرا إنهم يعرفون اللاجئ الفلسطيني من مشيته المختالة كأنه القبضاي. كل سلوك ومظهر فلسطيني أو كلام منسوب لفلسطيني ينسب إلى الشعب ليس إلى صاحبه فقط.
يدّعي دعاة فريق «الصفقة» أن سياستها إزاء المشروع الأميركي بعيدة عن مصالح شعبها وحقه في العيش بكرامة، هذا الادّعاء إهانة وقحة بإحساس الفلسطينيين العالي بكرامتهم كشعب وكصاحب قضية وطنية لا تقبل بيعاً رخيصاً أو شراءً بخساً.
يبدو لي، أن بعض الدعاة العرب المتطاولين على الشعب الفلسطيني يغارون من إحساسه القوي بكرامته، فهو يجرؤ على انتقاد سلطته لبعض سياساتها العربية والوطنية، لكنه لا يغفر لمن ينتقد إحساسه بكرامته في إصراره على حقوقه الوطنية. صحيح أن الرقم الفلسطيني في حقبة الحروب العربية ـ العربية، والاضطرابات الداخلية العربية، لا يبدو هو الرقم الصعب، لكنه يبقى كذلك فهو «الرقم الصعب» سواء في مشروع «الصفقة»، أو الحلول السياسية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والفلسطيني ـ الأميركي.. وحتى الفلسطيني ـ العربي.