بقلم :عبد الباري عطوان
انتهت أزَمة سفينة الحاويات التي جنَحت في وسَط قناة السويس ممّا أدّى إلى إغلاقها لحواليّ أسبوع، وتعطيل المِلاحة الدوليّة، ورفع أسعار النّفط والشّحن والتّأمين، لكن تظل هُناك دُروس عديدة يجب استِخلاصها، وأبرزها حالة الشّماتة الإسرائيليّة، والتّشكيك بالقُدرات المِصريّة، وخُروج مشاريع بديلة للقناة من أدراجها.
قبل الخوض في كُل هذه النّقاط عالية الأهميّة، وحوصلة ما جرى طِوال أسبوع الأزمة من تطوّرات، داخِل مِصر وخارجها، لا بدّ من التوقّف عند عدّة أمور:
أوّلًا: أنّ هذا الإنجاز، أيّ تعويم السّفينة، وإنهاء أزمتها، وإعادة فتح القناة أمام طابور من السّفن المُنتظرة، تحقّق بعُقول وخبرات وأيادي عربيّة مِصريّة، ولم تلجأ هيئة قناة السويس إلى أيّ عون أمريكي أو غربي إلا في الحُدود الدّنيا.
ثانيًا: لم تستغرق أزمة جنوح السّفينة إلا ستّة أيّام، على عكس كل التوقّعات الغربيّة التي أفتت بأنّها قد تستمر لعدّة أسابيع، وذهب البعض إلى تبنّي نظريّة المُؤامرة والحديث عن عملٍ إرهابيّ.
ثالثًا: إذا استعرضنا تاريخ المِلاحة في القناة مُنذ حفرها، نجد أنّ الحوادث المُماثلة كانت شِبه معدومة، إن لم تكن معدومةً كُلِّيًّا، فلم يَجرِ إغلاق هذه الشّريان المِلاحي الدّولي إلا في زمن الحُروب فقط، وبعد نكسة حزيران 1967 على وجه الخُصوص.
رابعًا: قناة السويس التي تُدِر 15 مِليون دولار يوميًّا إلى الخزينة المِصريّة (6 مِليار دولار سنويًّا تقريبًا) ليست مُلكًا لحُكومةٍ أو رئيس، وإنّما للشّعب المِصري بأسْرِه، وأحد مصادر البِلاد الرئيسيّة للعُملات الصّعبة.
***
كان أسبوع غلق القناة مُؤلمًا لمِصر الدّولة والشّعب والمؤسّسات، لأنّه تزامن مع حادث صِدام قطاريّ سوهاج الكارثي، وانهِيار عمارة من 12 طابقًا فوق رؤوس سكّانها في شارع جسر السّويس ممّا يُشكّل “انتكاسةً” لجُهود مُثمرة مُتعدّدة، أبرزها الاستَثمار الضّخم في قِطاع البُنى التحتيّة والخَدمات العامّة الأساسيّة، وتحقيق مُعدّلات نمو اقتصاديّة مُتقدّمة.
المُشكلة الرئيسيّة التي تُواجِهها مِصر في نظر الكثير من الخُبراء وتُؤدّي إلى بعض المشاكل والأزَمات تتمثّل في الأخطاء البشريّة النّاجمة عن الإهمال والفساد، وسُوء الإدارة، وغياب المُحاسبة الجادّة للمسؤولين، كِبارًا كانوا أو صِغارًا، لذلك فإنّ قرار النائب العام بحبس سائقي القطارين المسؤولين عن الصّدام خطوة في الاتّجاه الصّحيح، فخِيار الحزم في المُحاسبة يجب أن يحظى بالأولويّة.
حوادث مُماثلة ربّما أكثر خُطورةً تقع في مُختلف أنحاء العالم، بِما في ذلك أوروبا وأمريكا وروسيا والصين واليابان، ولكن الاستِثناء المِصري يتمثّل في تِكرارها، وخاصّةً حوادث القِطارات، الأمر الذي يتَطلّب تشديد إجراءات المُحاسبة، والرّقابة، وعدم قُبول أيّ أعذار تبريريّة لأنّ الشّعب المِصري المُكافِح الصّبور يستحق إدارةً أفضل بكثيرٍ من إدارته الحاليّة لقِطاع الخدمات الأساسيّة لفُروعه كافّةً.
مِصر مُستهدفة، من قِوى إقليميّة ودوليّة عُظمى، لأنّها بيضة قبان الشّرق الأوسط، مستهدفة في مياهها عبر مُؤامرة سد النهضة، ومُستهدفة في ثرواتها الغازيّة في شرق المتوسّط، ومُستهدفة في أمنها واستِقرارها في جبهة حُدودها الغربيّة مع ليبيا، والأهم من ذلك من دولة الاحتِلال الإسرائيلي التي تُريد استِنزافها في كُل الجبهات، وخاصّةً الجبهة الجنوبيّة بدعمها مشاريع سدّ النهضة، وتوفير الحِماية العسكريّة لها، وتحريض الحُكومة الإثيوبيّة على تقليص حصّة مِصر من مِياه النّيل.
المُؤامرات التي اجتاحت الشّرق الأوسط بدعمٍ إسرائيليّ دمّرت مُعظم مراكز القِوى الرئيسيّة في المِنطقة، ابتداءً من العِراق، ومُرورًا بسورية، وانتهاءً باليمن وليبيا، وكادت أن تكون الجزائر الهدف التّالي لولا وَعِي شعبها وقِيادتها، ولم يبقَ إلا الجيش المِصري الذي ما زال مُتماسِكًا.
***
مِن المُؤلم أنّ مُعظم أصدقاء مِصر، خاصّةً في مِنطقة الجزيرة العربيّة والخليج، الذين تجاوزوا كُل الخُطوط الحُمر في التّطبيع مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، هُم الذين ينخرطون حاليًّا في مشاريع بديلة لقناة السويس، مِثل قناة إيلات أسدود الذي يربط خليج العقبة بالبحر المتوسّط، وأيضًا خط سكك الحديد الإسرائيلي المُقتَرح الذي من المُفترض أن يَربِط دولة الإمارات بميناء حيفا الفِلسطيني المُحتَل.
نُدرِك جيّدًا أنّ الدّولة المِصريّة التي على علمٍ ومُتابعة دقيقة لكُل هذه المشاريع التآمريّة، تتحلّى بسياسة النّفس الطّويل، مع الاستِعداد في الوقت نفسه لجميع الاحتِمالات، ولكن لا بُدّ من إشراك الكفاءات المِصريّة العلميّة والإداريّة واستِيعاب مُعظمها في دائرة اتّخاذ القرار من خِلال مُراجعات شفّافة، وإصلاحات سياسيّة جذريّة على أرضيّة المُصالحة الوطنيّة، وشِعار “مِصر لجميع أبنائها” في إطار إعلام بسَقفٍ أعلى من الحُريّات لمُمارسة دوره كسُلطةٍ رابعة.
نحمد الله أنّ مِصر تجاوزت “أسبوع النّحس”، وعادت أُمور قناتها إلى سِياقها الطّبيعي، ونحن على ثقةٍ بأنّ إجراءات حاسمة سَتُتّخذ لعدم تِكرار هذه الأخطاء في المُستقبل.