قبل اغتيال المرشد الروحي لقنبلة إيران النووية، محسن فخري زاده، كانت المنطقة والعالم يتنفسان على إيقاع لحظة انتقالية إشكالية على مستوى كرسي البيت الأبيض. وحسم هذه الإشكالية منوط بالمجمّع الانتخابي العام كما يصر الرئيس الأميركي دونالد ترمب. إنها لحظة انتقالية مشابهة، لتلك التي قتل فيها رمز قوة إيران الخارجية الجنرال قاسم سليماني، حيث أعلن ترمب بعري شفّاف وواضح مسؤوليته عن اغتياله في حرم مطار بغداد الدولي في 2 كانون الثاني / يناير 2020.
وبعيدا عن القصف الإيراني الكاريكاتوري لقاعدة "عين الأسد" الأميركية في البغدادي غرب الأنبار، فقد دخلت المنطقة مرحلة حبس أنفاس، رُسم خلالها وتزامنا معها عدة سيناريوهات للثأر الإيراني المحتمل لمقتلة سليماني وتسعة مرافقين بينهم نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي الموالي لإيران أبو مهدي المهندس. وهو الثأر الذي تعهّد به للمناسبة أذرعة إيران الحوثية في اليمن، والحشد الولائي في العراق. لكن التعهد الأبلغ كان بلسان زعيم حزب الله في لبنان، الذي لم يزل تعهده بالثأر لاغتيال عماد مغنية في دمشق معلّقا في الهواء.
بدون شك، فإن مرحلة ما بعد اغتيال سليماني تختلف عمّا قبلها. فهو الاغتيال الذي أراد ترمب من خلاله، توجيه رسالة واضحة لمن هم تحت إشراف سليماني أو فوقه. رسالة مفادها، بأن لا أحد أكبر من سليماني، الذي سبق اغتياله، اغتيال نوعي آخر نفّذه ترمب بحق زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، في تطبيق أميركي نادر للمساواة تجاه المدرجين على اللوائح الأميركية للإرهاب.
إنها لحظة انتقالية تلك التي أقال فيها ترمب بعض قادة البنتاغون ووزير الدفاع مارك إسبر، وعيّن كريستوفر ميللر بديلا عنه بالوكالة. وقد استهل ميللر عمله بالإعلان عن انسحاب 500 جندي أميركي من أصل 3000 جندي يتمركزون في العراق. وهو الانسحاب الذي أحدث نوعا من الذعر في أوروبا، وعلى مستوى حلف الناتو الذين طالبوا ترمب بتأجيل الانسحاب الذي زامنه نشر الولايات المتحدة وفي خطوة غير مسبوقة منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003 لقاذفات بي 52 العملاقة التي تجوب سماء المنطقة، ويقال إن بعضها تمركز في قاعدة عين الأسد في الأنبار غرب العراق، وهي القاعدة التي نصبت فيها واشنطن بطاريات صواريخ باتريوت بعد القصف الصاروخي الباليستي الإيراني الذي استهدفها إثر اغتيال سليماني.
لكن الانسحاب الذي بدا أشبه باعادة تموضع، أرادت إيران تثميره نصرا في سياق الثأر الاستراتيجي لاغتيال سليماني. وقد عُبّر عن ذلك باستهداف الميليشيات التابعة لها محيط السفارة الاميركية في بغداد بأربعة صواريخ سقطت في المنطقة الخضراء، وثلاثة صواريخ ضلّوا طريقهم خارجها، فدمروا بعض البيوت، ما أسفر عن مقتل طفلة وإصابة خمسة مدنيين بجروح.
إنها الصواريخ الولائية، التي لطالما نُسبت لتنظيمات مجهولة الأسماء، معروفة النسب والأبوين، وأرادت إيران عبرها القول إن الاميركيين هُزموا وطُردوا من العراق من جهة، وتلك التي وقفت خلف زيارة وريث قاسم سليماني في قوة القدس الجنرال اسماعيل قآاني المفاجئة إلى بغداد، بدعوة من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بهدف مساعدته على ضبط خلايا الكاتيوشا التي ازدادت صلياتها ضد السفارة والمصالح الأميركية من جهة أخرى.
انها خلايا الكاتيوشا التي ارتفعت تصريحات مسؤوليها في الحشد الولائي، ومنهم زعيم ميليشيا العصائب قيس الخزعلي الذي فضح الأسماء المجهولة، ونعى الهدنة مع الأميركيين بقوله "انتهاء هدنة الفصائل جاء بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، فضلا عن عدم تحقق الشروط التي على أساسها حصلت الهدنة".
الخزعلي أراد من كلامه هذا، القول إن فصائل الحشد الولائي لها خياراتها الخاصة والمستقلة عن إيران. الفصائل التي هي في الوقت عينه، جزءا من محور المقاومة الذي تقوده طهران في المنطقة. ما يعني بصورة مباشرة عدم تحميل إيران مسؤولية أي تصعيد تفتعله فصائل الحشد الولائي، ردا على ضربة محتملة قد يوجهها ترمب ضد إيران أو الفصائل الموالية لها.
الخزعلي أراد القول أيضا، بأن الفصائل الولائية غير معنية بزيارة قآاني، الذي استبق زيارته الى بغداد بزيارة بيروت والتقى فيها حسن نصرالله بحضور أبو فدك المسؤول العسكري في الحشد الشعبي، وغيره من قادة الفصائل الولائية المتباينة الآراء، بهدف إقناعهم في العمل لاستمرار الهدنة مع الأميركيين بحسب مصادر إعلامية.
في ظل هذا المناخ الذي كانت فيه إيران وأذرعتها، يستعدون للثأر لمقتل قاسم سليماني، في سنويته الأولى المتزامنة مع اللحظة الانتقالية القلقة والمقلقة التي يعيشها البيت الأبيض والعالم، أتى اغتيال المرشد الروحي للمشروع النووي الايراني محسن فخري زاده، في عملية أمنية بالغة التعقيدات الاستخبارية واللوجستية، لتشكل صفعة قوية أصابت رأس النظام الإيراني بالذهول وعقله بالجنون. سيما وأنها عرّت بنيته الأمنية والاستخبارية وكشفت هشاشتهما وبعضا من الاختراق الأميركي الإسرائيلي، وليس كله، لمواقع وميادين غير معلومة في إيران.
إنه الاختراق الذي سيقضّ ولزمن غير قصير مضاجع المسؤولين الإيرانيين الأمنيين والعسكريين والنوويين على السواء. سيّما وأنّه الاختراق الذي تحوّل تقاذفا للتهم بين القادة الإيرانيين حول أسباب الفشل الأمني والاستخباري، وقد وجدوا أنفسهم عراة أمام فيديوات بنيامين نتنياهو حول أسرار المنشآت النووية، وخرائطه حول مصانع الصواريخ الدقيقة في ايران ولبنان، كما وعلى تغريداته الكاشفة لبصمات الموساد وهو يحصد الرؤوس المنتقاة الكبيرة والوازنة بين الرموز الإيرانية.
خطورة اغتيال زاده أنها لم تجرِ في مطار بغداد أو خارج إيران، وإنما في ضواحي طهران. ما يعني أنه بات لأجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية وربما غيرهما، هيكلية عملياتية استخبارية بشرية ولوجستية متكاملة. هيكلية قادرة على اصطياد الأهداف الثمينة مهما بلغت حماياتها الأمنية، وارتفعت من حولها الجدران الاسمنتية والمنصّات الصاروخية، والمجسّات الإلكترونية.
واغتيال زاده، يفوق في مفاعيله وليس يوازي فقط اغتيال قاسم سليماني. سيما وأن سليماني والحرس الثوري، وكل منطقة صنع القرار في طهران، كانوا في سعي محموم لإنتاج القنبلة التي ستدخل إيران الى عضوية النادي النووي العالمي، وهي العضوية التي تمنحها لو تحققت، أقله، حق النقض في طول المنطقة وعرضها. وقد توّج اغتيال زاده في طهران، سلسلة اغتيالات استهدفت شخصيات بارزة في برنامج إيران النووي، وهم بالاضافة لفخري زاده:
- مسعود علي محمدي، عالم نووي، قتل بتفجير قنبلة عن بعد في طهران بتاريخ 12 كانون الثاني / يناير 2010.
- مجدي شهرياري، عالم نووي، قتل في انفجار سيارة مفخخة في طهران في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010.
- فريد عباسي دواني، عالم فيزيائي، أصيب وزوجته في انفجار سيارة مفخخة استهدفته في ذات التاريخ الذي اغتيل فيه شهرياري.
- داريوش رضائي، عالم فيزيائي، اغتيل رميا بالرصاص في عملية نفذها مسلحون شرق طهران في 23 تموز/ يوليو 2011.
- مصطفى أحمدي روشن، عالم نووي في منشأة نطنز، قتل في انفجار عبوة لاصقة في سيارته، زرعها راكب دراجة نارية في كانون الثاني/ يناير 2012.
الاغتيالات التي شهدتها إيران، تذكر باغتيالات تسابقت المخابرات الإيرانية مع الموساد الإسرائيلي، على تنفيذها بحق العديد من علماء العراق بعد غزوه واحتلاله عام 2003. وهي الاغتيالات التي كانت على سبيل الثأر وتصفية الحساب مع العقول العراقية التي طوّرت منظومات الصواريخ العراقية التي استولت إيران على وثائقها وخرائط تصنيعها واستخدمتها في تطوير ترسانتها الباليستية. سيما وأنها الصواريخ التي فعلت فعلها خلال الحرب العراقية الإيرانية، والتي سبق واستهدفت الكيان الإسرائيلي بثمانية وأربعين صاروخا منها.
لكن العملية البالغة الدلالات، هي تلك التي سبق وكشفتها الإدارة الأميركية الأسبوع الماضي. العملية التي نفذتها مجموعة "رأس الرمح" في الموساد الإسرائيلي بناء لطلب واشنطن، والتي قتل فيها مع أبو محمد المصري الرجل الثاني في تنظيم القاعدة ابنته مريم، في هجوم بالرصاص في 7 آب/ أغسطس الماضي.
إنه الاغتيال الذي ادعت طهران أنه استهدف أستاذ تاريخ لبنانيا يدعى حبيب داود وابنته. وفيما بيّنت التقارير زيف ادعاءات طهران، لانعدام وجود أي أثر لجامعي بهذا الاسم في لبنان. فقد بيّن هذا الاغتيال أيضا، حجم التخادم وعقد زواج السفاح الذي أبرمته ايران (التي صمّت الآذان بادعائها وأذرعتها قتال الارهابيين والتكفيريين) مع تنظيم القاعدة.
ممّا تقدم يتضح وفي سياق الاستراتيجية الترامبية، التي يبدو أنها أصبحت استراتيجية أميركية، فإن اغتيال زاده يأتي ضمن الشروط الترامبية الاثني عشر التي سبق لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبييو أن عدّدها لإبرام صفقة او اتفاق جديد مع إيران. إنها الشروط المنتصبة على ثلاثة عناصر.. أولّها، خفض مستوى تخصيب اليورانيوم. ثانيها، معالجة الصواريخ البالستية. أما ثالثها فتفكيك أذرعة إيران الخارجية، بما يكفل عودة إيران الى إيران.
إنها الثلاثية التي استهدف منها رأسا ضلعي إيران.. الخارجي، ممثلا باغتيال سليماني. والنووي، ممثلا باغتيال محسن فخري زاده. أمّا الضلع الثالث، فقد أثخنته غارات الطيران المعلوم المجهول والغامض على السواء، لكنه لم يتلق الضربة الاعتبارية المتناسبة مع الضلعين المذكورين. لكنه الضلع الذي سيكون أحد عناوين الحرب التي ضاعف من قرع طبولها، الى عودة حاملة الطائرات الأميركية "يو إس إس نيميتز"، من المحيط الهادي الى الاسطول الأميركي الخامس المتمركز في الخليج، إعلان الرئيس الأميركي ترمب غداة اغتيال محسن فخري زاده، استعداده لإصدار أوامره برد مدمّر إذا قتل أي أميركي، في هجمات منسوبة الى ايران، التي تعهد قادتها بالثأر لمقتل زاده. إنه الثأر الذي سبق وأشرنا أن أذرع إيران وعلى رأسها حسن نصرالله سبق وتعهدوا به انتقاما لمقتل سليماني. لكنهم نأوا بأنفسهم عن التعهد بالثأر لاغتيال فخري زاده، الذي هو بيد إيران، كما صرح الرجل الثاني في حزب الله نعيم قاسم.
ممّا تقدم أيضا يتضح أن اغتيال فخري زاده، ضاعف من دوي الصفعة المذّلة التي تلقتها ايران باغتيال قاسم سليماني. فهي الصفعة التي كشفت وضاعفت من حجم تخبطها وفشلها في مواجهة تداعيات العقوبات الاقتصادية، والانفجارات الغامضة، والاغتيالات المكشوفة. ما يشي بأن إيران التي لم ينفعها بلعها لصواريخها الصوتية من خلال تراجعها عن تهديدها "بتدمير اسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، وأعلنت بلسان جنرال الحرس الثوري حسين سلامي "أن الظروف غير مواتية لتدمير اسرائيل"، وجدت نفسها أمام كمين اقليمي دولي نصب لها من طهران الى باب المندب مرورا بدمشق وبيروت.
إنّه الكمين المؤدّي لاندلاع حرب في المنطقة في اللحظة الانتقالية التي تسبق مغادرة ترمب للبيت الأبيض. وهي الحرب التي يريدها ترمب اتساقا مع العقيدة الترامبية، كما ولتحميل خلفه جون بايدن أوزانا ثقيلة تمنعه من العودة الى اللحظة التي رقص فيها باراك اوباما مع نظيره الإيراني حسن روحاني الرقصة النووية الشهيرة. لكن الحرب في حال اندلاعها أخيرا، فربما تكون إيران المبادرة لإطلاق شرارتها الأولى بذريعة الثأر المؤجّل لقاسم سليماني والمستحق لفخري زاده، خصوصا بعد تصويب منظمة الطاقة النووية الإيرانية على اسرائيل، واعتبارها "أن منفذي انفجار موقع نطنز النووي، هم أنفسهم قتلة فخري زاده".