مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى

مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى

مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى

 تونس اليوم -

مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى

بقلم - عمار علي حسن

لم يولد التيار المدنى المصرى النازع إلى الحرية والحداثة والاستنارة، فى ركاب ثورة 25 يناير ولا حتى قبلها بعقود قليلة، إنما يضرب جذورا عميقة فى التربة الاجتماعية لأقدم دولة فى تاريخ الإنسانية، ويسير طيلة حياته فى تعاريج تأخذه صعودا وهبوطا، وبروزا وخفوتا، وهو يدخل فى دهاليز الدولة، ويلامس أروقة الحكم أو يجلس فيها قليلا، قبل أن يغادرها إلى الظل، سواء فى شكل «استراحة محارب» أو على هيئة «بيات شتوى»، خاصة أن أهل الحكم حريصون دوما على محاربة التيار المدنى المنظم الذى يطالبهم بتداول السلطة، والإيمان بالتعددية، واحترام حرية التفكير والتعبير والتدبير، وصيانة حقوق الإنسان وكرامته.

وتتوزع خريطة التيار المدنى المصرى على ثلاث سبل، الأول منظم ذو بنية وله هيكل وصورة اجتماعية مجسمة محددة القوام. والثانى مبعثر لا يمكن حصره وتحيطه دوما ظنون، ويفتقر باستمرار إلى البرهان الناصع الذى يعينه ويرسم ملامحه بدقة أو يحصيه. والثالث هو الذائب فى الرؤوس والأفئدة والقلوب، يسكن الأذهان والنفوس والضمائر، من أفكار ورؤى ومعانى وقيم يؤمن أصحابها بالطريق المدنى فى السياسة والاجتماع والثقافة، ويرومون طيلة الوقت دولة عصرية، تعيش زمانها الآنى، وليس فى الماضى القريب أو السحيق.

ويسير التيار المدنى المنظم فى اتجاهات ثلاثة، الأول توجده الأحزاب السياسية، والثانى يرتبط بالحركات الاجتماعية الجديدة، الثالث يتمثل فى جماعات الضغط. وإلى جانب هذه التنظيمات، الموزعة بين مجتمع «أهلي» يعمل فى مجال «النفع العام» هناك التشكيلات والتجمعات الحديثة التى تعمل فى مجال حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية وتمكين المرأة والدفاع عن حقوق المهمشين... إلخ، وهى التجمعات والتكوينات التى تقاوم من أجل البقاء حية، فى ظل سياسة التكميم والتعتيم والقهر التى تتبعها السلطة الحالية.

ورغم هذه الخريطة المركبة أو المعقدة فإن التيار المدنى ليس عاجزا، إن توافرت الإرادة القوية والإدارة الرشيدة، فى إيجاد المسار السهل والواضح الذى يسلكه فى طريقه إلى التمكين، أو تسيد المشهد السياسى والاجتماعى.

وهذا ليس أضغاث أحلام، فالتيار المدنى أثبت غير مرة أنه قادر على تجميع الأنصار واستعراض القوة. ففى كثير من «الجمع» التى قاطعها التيار الإسلامى تمكن المدنيون، وفى سياق مشبع بالتحدى والمنافسة الشرسة، من أن ينظموا مظاهرات فى أغلب المدن المصرية، وملأوا العديد من الميادين بمئات الآلاف من المتظاهرين. وراح عدد أنصار التيار المدنى يتزايد بمرور الوقت وتوالى موجات الثورة، وبرهن المدنيون على أنهم ضلع قوى ومستقيم فى المعادلة السياسية لا يمكن تجنيبه أو القضاء عليه.

ويبدو المستقبل فى صالح التيار المدنى شريطة أن يعى هو ذلك ويعمل من أجل ذلك بأسلوب علمى يتسم بالجرأة ويمتلك المغامرة ويراهن على تعزيز الثقافة المدنية بين الناس، ويدرك بشكل جلى مدى «نزيف المصداقية» الذى بدأ يعانى منه التيار الإسلامى.

ولا يعنى هذا أن المستقبل هو للتيار الغارق أو الصارخ فى العلمانية الشاملة والكلية، أو ذلك الذى ينادى بإبعاد الدين عن الحياة. فمثل هذا التيار غير متواجد إلا فى أفراد قلائل من بين المدنيين، والأغلبية الكاسحة تؤمن بدور الدين فى الحياة لكنها تريد إبعاده عن السلطة، وخلافها مع التيار الإسلامى ليس خلافا فى «التنزيل» إنما خلاف فى «التأويل».

فالمدنيون يمتلكون بمرور الوقت قدرة على التعبئة والحشد، ويستفيدون من اهتزاز صورة التيار السياسى المتخذ من الإسلام أيديولوجية له، وتآكل مصداقيته لدى الشارع، ويحوزون أدوات للتغلغل فى أروقة المجتمع.

لكن تقدم المدنيين مشروط أكثر بترسيخ الآليات التى تضمن تداول السلطة، وتقوم على نزاهة الانتخابات وحريتها وشفافيتها واستقلالية الجهة التى تشرف عليها. فلو تمكن المتغلبون فى الانتخابات الأخيرة ومعهم العسكر من مفاصل الدولة بأجهزتها المالية والأمنية والبيروقراطية والإعلامية، فإنهم سيستغلون كل هذا ضد منافسيهم فى الانتخابات بما يقضى على تكافؤ الفرص، وقد يؤدى إلى تأبيد تيار بعينه فى السلطة، سواء بالتزييف الخشن لإرادة الأمة أو باستعمال الأساليب الناعمة فى حرمان المنافسين السياسيين من أن يتقدموا نحو السلطة.

وهناك شرط آخر لا يقل أهمية عن السابق يتعلق بسبل وغايات التخلص من «عسكرة الحياة المدنية» وهى آفة أصابت مصر منذ حركة الضباط فى يوليو 1952. فالعسكريون تسللوا إلى المجتمع العام بصورة ظاهرة، مستغلين تعاقب أربعة رؤساء من بينهم على عرش مصر. وتوزع هذا التسلل على مختلف جوانب المعيشة، فللعسكريين حصة مهمة من المحافظين، وهم بمنزلة حكام الأقاليم، وكثيرون منهم يتم توظيفهم بعد التقاعد فى إدارة كبرى شركات القطاعين العام والحكومى، أو فى وظائف فرعية. وهناك من يتولون إدارة الأندية الرياضية وبعض أجهزة الخدمة المدنية على اختلاف أنواعها. ولا يوجد ما يمنع من الاستفادة من قدرة أى عسكرى متقاعد على إفادة بلده، شرط أن يتم هذا وفق قاعدة الاحتياج والكفاءة، وليس وفق توزيع الحصص والتسكين وتمكين مؤسسة واحدة على حساب بقية المؤسسات والكيانات والاتجاهات. والأهم من كل هذا أن تكون منظومة العمل والقوانين وطريقة الإدارة ذات طابع مدنى، يتكيف الداخل إليها معها، لا أن يحدد هو كيفية عملها، وأسلوب أدائها.

المصدر - جريدة الوطن

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى مصر من الثقافة المدنية إلى الحكم المدنى



GMT 00:05 2018 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

آفة أن يُحارَب الفساد باليسار ويُعان باليمين

GMT 06:32 2018 الجمعة ,11 أيار / مايو

الكتابة تحت حد السيف

GMT 05:12 2017 الجمعة ,15 أيلول / سبتمبر

سيادة «القومندان» عارف أبوالعُرِّيف

GMT 13:33 2017 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

التعليم والتطرف والإرهاب العرض والمرض والعلاج

GMT 04:24 2017 الجمعة ,09 حزيران / يونيو

لماذا تشكو مصر من قطر؟

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 06:31 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

تنعم بأجواء ايجابية خلال الشهر

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 15:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 09:20 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

فوائد صحية وجمالية لعشبة النيم

GMT 18:17 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

إنجي علي تؤكّد أن مصر تتميز بموقع فني عالمي رفيع

GMT 13:10 2013 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الــ " IUCN"تدرج "الصلنج" على القائمة الحمراء

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 11:30 2017 الثلاثاء ,28 شباط / فبراير

آثار الخلافات الزوجية على سلوك الطفل

GMT 10:30 2021 السبت ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمرنا النت والحاج جوجل!

GMT 11:43 2018 الجمعة ,08 حزيران / يونيو

البوركيني إسماعيل يانجو ينضم لنادي العروبة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia