خلال عام ونصف العام من التدهور، هوت أسعار النفط من أكثر من 105,9 دولار للبرميل في المتوسط في عام 2013 إلى مجرد 28 دولارا للبرميل حاليا بنسبة انخفاض قدرها 73,6% خلال ما يقل عن عام ونصف العام من التدهور التدريجي بداية من خريف عام 2014، حيث ظل السعر يتذبذب في دورات حلزونية في اتجاه تراجعي حتى بلغ مستواه الحالي تحت 30 دولارا للبرميل. ولمن لا يذكر فإن إصلاح انهيار أسعار النفط الذي حدث في عام 1986 بعد سياسة الإغراق التي اتبعتها بعض دول الأوبك، استغرق 14 عاما حتى عادت الأسعار فوق مستوى 20 دولارا للبرميل مع استثناء فترة التسعة أشهر التي شهدت احتلال العراق للكويت وإطفاء حرائق آبار النفط التي تعرضت للإشعال آنذاك. ومن المرجح أن يكون تعافي أسعار النفط على درجة عالية من الصعوبة في ظل التحسن الهائل في اقتصادات إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح، وتزايد إنتاج الغاز الطبيعي الأقل تكلفة بكثير من النفط، وتزايد الاتجاه للسيارات التي تعمل بالكهرباء أو المزدوجة التي يمكنها استخدام البنزين أو السولار او الكهرباء. وفضلا عن هذه العوامل الفنية فإن هناك العديد من العوامل السياسية التي قد تتدخل ايضا لإبقاء اسعار النفط عند مستويات متدنية فترة طويلة.
وتنوعت الأسباب السياسية والفنية في سوق النفط بحيث أنتجت التدهور الكبير الحادث حاليا في أسعار النفط. وعلى نفس القدر من الأهمية تأتي النتائج المتوقعة لهذا التدهور على النمو والتجارة والتضخم في العالم. وكذلك الآثار على الاقتصادات المصدرة للنفط وعلى رأسها اقتصادات الدول النفطية العربية، وعلى الاقتصادات العربية المستوردة للنفط مثل مصر والمغرب، والاقتصادات الدولية المستوردة له وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والهند، وعلى حركة العمالة العربية والآسيوية لدول الخليج وتحويلاتها لبلدانها. وكذلك الآثار على حركة الدولار مقابل العملات الحرة الرئيسية.
الانهيار بسبب السياسة وعوامل السوق
قبل تناول العوامل المختلفة التى أدت لانهيار أسعار النفط لابد من الإشارة إلى أن الصعود الهائل لأسعار النفط من 23٫1 دولار للبرميل عام 2001 حتى بلغ 94٫4 دولار فى المتوسط عام 2008، لم يكن منطقيا بقدر ما كان مرتبطا بعمليات هائلة للمضاربة على كل شىء والتى أدت فى النهاية إلى انفجار الفقاعة العقارية والتمويلية ووقوع الأزمة المالية الأمريكية والعالمية عام 2008. كما أن الشركات الراغبة فى تحقيق جدوى اقتصادية من استخراج النفط من الزيت الصخرى أسهمت فى دفع الأسعار للصعود حتى تتحقق تلك الجدوى. كما أن المصلحة الأمريكية انتقلت من تخفيض أسعار النفط إلى رفعها بعد أن أصبحت حصص الشركات الأمريكية فى إنتاج الدول النفطية التى تعمل فيها تلك الشركات أعلى كثيرا من مجموع الواردات الأمريكية من النفط، وبالتالى أصبح ارتفاع أسعاره فى مصلحة تلك الشركات المهيمنة اقتصاديا وسياسيا حتى لو لم يكن فى مصلحة المواطنين الأمريكيين الذين ترتفع عليهم تكلفة استخدام المنتجات النفطية أو السلع التى تدخل فيها. وهذا النمط من تحريك الأسعار صعودا وهبوطا بعيدا عن عوامل التكلفة أو الندرة هو نوع من التلاعب والعبث بالاقتصاد العالمى من قبل الشركات النفطية الكبرى والدول التابعة أو المتعاونة مع تلك الشركات الأمريكية بالأساس فى هذا الشأن.
والغريب أنه بعد أن صحح السوق نفسه وبلغ سعر برميل النفط نحو 61 دولارا فى المتوسط عام 2009، لكنه عاد للارتفاع بقوة ليبلغ 77٫4 دولار للبرميل عام 2010، ثم حدث ارتفاع أكبر للأسعار لتصل إلى 107٫5 دولار للبرميل عام 2011 تحت ضغط المخاوف من توقف صادرات النفط الليبية والتى تم تضخيمها لدفع السوق فى هذا الاتجاه. ورغم أن السوق اثبت قدرة كبار المنتجين وبالذات المملكة العربية السعودية وروسيا والولايات المتحدة على تعويض غياب اى كميات من النفط الليبي، فإن أسعار النفط واصلت البقاء عند مستويات مرتفعة لتبلغ 109.5 دولار للبرميل فى المتوسط عام 2012. ورغم أن السعر تراجع قليلا ليبلغ 105٫9 دولار للبرميل من سلة خامات أوبك عام 2013، فإنه بقى عند مستويات مرتفعة.
ومع نشوب الأزمة الأوكرانية واستعادة روسيا لإقليم القرم وتصاعد التوتر مع الغرب، نزعت شركات النفط الأمريكية والغربية إلى دفع الأسعار للهبوط لإيقاع اضرار جسيمة بالاقتصاد الروسى الذى تشكل الصادرات من النفط والغاز غالبية صادراته، فضلا عن ان قطاع الصناعات الاستخراجية وبالأساس النفط والغاز يسهم بنحو 21% من الناتج المحلى الإجمالى الروسى طبقا لبيانات البنك الدولى فى تقريره عن مؤشرات التنمية فى العالم (2015). وهذا الأمر تم من خلال التأثير الفعلى فى حجم المعروض من النفط فى الأسواق العالمية. وعلى سبيل المثال تشير النشرة الشهرية لمنظمة الأوابك (منظمة الدول العربية المصدرة للنفط) فى نوفمبر 2015 إلى أن حجم المعروض من النفط قد بلغ نحو 98٫5 مليون برميل يوميا فى سبتمبر الماضي، بينما بلغ حجم الطلب نحو 94٫9 مليون برميل يوميا فى الشهر نفسه. وبالتالى كان هناك فائض قدره 3٫6 مليون برميل يوميا. وفى أغسطس الماضى كان فائض العرض نحو 2٫5 مليون برميل يوميا. ونتيجة هذا الاختلال بين العرض العالمى للنفط الأكبر كثيرا من الطلب عليه والذى صنعته الشركات الأمريكية وبعض الدول الرئيسية المصدرة للنفط، تراجعت أسعار الخام بشكل سريع حتى وصلت إلى الانهيار الراهن.
ومع دخول روسيا الحرب ضد الإرهاب إلى جانب الدولة السورية، وما أدى إليه من كشف زيف الحملة الأمريكية ضد الإرهاب، وكشف وجود دعم قوى للإرهابيين من العديد من الدول فى المنطقة وعلى رأسها تركيا، تسارعت خطى الضغط المالى على روسيا عبر دفع أسعار وعائدات صادراتها الأساسية ـ اى النفط ـ للانهيار. وقد أدى ذلك إلى تدهور سعر صرف الروبل الروسى مقابل العملات الحرة الرئيسية. وعلى سبيل المثال ارتفع الدولار مقابل الروبل بنسبة 25% فى الأشهر الاثنى عشر الأخيرة، حيث ارتفع من 65٫5 روبل فى يناير 2015 إلى 81٫8 روبل فى يناير الجارى وفقا للأسبوعية البريطانية «الإيكونوميست».
لكن اللافت أن روسيا حافظت على قدرتها على تحقيق فائض كبير فى ميزان الحساب الجاري، حيث بلغ ذلك الفائض فى عام 2015 نحو 65٫5 مليار دولار تعادل نحو 5٫2% من الناتج المحلى الإجمالى الروسي. وذلك الأداء الروسى أفقد تخفيض أسعار النفط فعاليته فى الإضرار بالاقتصاد الروسى إلى حد تركيع روسيا كما كان الغرب يريد. وللعلم فإن باقى الدول النفطية عانت الأمرين فى عام 2015 بسبب انخفاض أسعار النفط، ومن المنتظر أن تتزايد معاناتها فى العام الحالي. وتشير بيانات صندوق النقد الدولى فى تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمى إلى أن تقديرات ميزان الحساب الجارى تشير إلى عجز بنسبة 3٫5% من الناتج المحلى الإجمالى فى المملكة العربية السعودية، ونحو 12٫7% فى العراق، ونحو 16٫9% فى عمان، ونحو 17٫7% فى الجزائر، ونحو 3% فى فنزويلا. ورغم تآكل الفوائض الكبيرة فى باقى البلدان النفطية العربية، فإنها حافظت على استمرار الفائض فى ميزان الحساب الجارى وإن بمستويات أقل كثيرا من السابق فى الكويت والإمارات وقطر.
الاقتصاد العالمى وانهيار أسعار النفط
بالنظر إلى المكانة الكبيرة التى يشغلها النفط ومنتجاته فى الاقتصاد العالمي، ووجودهما كمدخل فى إنتاج عدد كبير من السلع والخدمات، فإن تراجع أسعار النفط على هذا النحو سيساعد على تحسين النمو الاقتصادى العالمى عبر تخفيض تكلفة الطاقة اللازمة لمختلف المشروعات. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى إلى أن معدل النمو الحقيقى للناتج العالمى سيرتفع من 3٫1% عام 2015 إلى 3٫6% عام 2016. وسيرتفع المعدل فى الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة من 1٫8% عام 2015، إلى 2% عام 2016. أما الدول النامية والاقتصادات الناهضة فسوف يرتفع النمو فيها من 4% عام 2015، إلى 4٫5% عام 2016. ومن المهم تأكيد أن النفط هو أحد العوامل المهمة لكنه ليس العامل الوحيد المحدد لفرص النمو فى مختلف اقتصادات العالم المصدرة او المستوردة له.
وإذا كان هناك أثر إيجابى لتراجع أسعار النفط على نمو الاقتصاد العالمى إجمالا، فإن البلدان المصدرة للنفط ستتأثر سلبيا بينما ستتأثر الدول المستوردة بصورة إيجابية. وعلى سبيل المثال تشير تقديرات صندوق النقد الدولى فى تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمى إلى أن معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى الأمريكى سيرتفع من 2٫6% عام 2015، إلى نحو 2٫8% عام 2016. وسيرتفع المعدل فى منطقة اليورو من 1٫5% إلى 1٫6%، وفى اليابان سيرتفع من 0٫6% إلى 1%. ويشير التقرير نفسه إلى توقعات بتراجع معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى فى المملكة العربية السعودية وهى كبرى الدول المصدرة للنفط من 3٫4% عام 2015، إلى 2٫3% عام 2016.
أما بالنسبة للتضخم فإنه من المنطقى ان يؤدى تراجع أسعار النفط إلى تراجع معدل التضخم العالمى إذا تم تثبيت آثار العوامل الأخرى المؤثرة فى هذا المعدل. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى فى تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمى إلى أن معدل ارتفاع أسعار المستهلكين (مؤشر معدل التضخم) فى الدول النامية والناهضة سينخفض من 5٫6% عام 2015، إلى 5٫1% عام 2016. وفى منطقة اليورو سيتراجع المؤشر من 2% إلى 1%. وفى اليابان سيتراجع المؤشر من 0٫7% عام 2015 إلى 0٫4% عام 2016.
وبالنسبة لقيمة التجارة العالمية، فإنه من المرجح ان تثبت أو حتى تتراجع على ضوء تراجع أسعار النفط الذى يعد مع منتجاته مكونا رئيسيا فيها فضلا عن تاثير أسعاره على أسعار السلع والخدمات التى تدخل الطاقة كمكون فيها، حتى لو استمر حجم التجارة العالمية ثابتا أو يتزايد بمعدلات متسقة مع معدلات النمو الاقتصادى العالمي.
مصر والعرب فى ظل تراجع النفط
تعتبر مصر دولة مستوردة صافية للنفط ومنتجاته. وقد بلغت قيمة الصادرات المصرية من النفط نحو 8705 ملايين دولار عام 2014/2015، بينما بلغت قيمة الواردات المصرية من النفط نحو 12358 مليون دولار فى العام نفسه. أى ان العجز التجارى النفطى المصرى بلغ 3653 مليون دولار فى ذلك العام المالي. وترتيبا على ذلك فإن الأثر المباشر لتراجع أسعار النفط يعتبر إيجابيا بالنسبة للميزان التجارى المصرى والموازين الخارجية عموما. كما سيقلل الضغوط المتعلقة بالاحتياج للعملات الحرة لتمويل الواردات النفطية، وبالتالى يمكن أن يؤثر إيجابيا على موقف الجنيه المصرى فى مواجهة العملات الحرة الرئيسية.
لكن بالمقابل هناك آثار سلبية غير مباشرة، حيث يعمل عدد ضخم من المصريين فى البلدان العربية المصدرة للنفط. ومن المؤكد أن تراجع دخول تلك البلدان سيؤدى إلى جمود حركة الرواتب فيها، وربما يؤدى إلى تراجع فرص العمل فيها وبالذات فى القطاع الخاص. وهذا الأمر يمكن أن يؤثر على تحويلات المصريين العاملين فى الدول العربية المصدرة للنفط. وكان إجمالى تحويلات المصريين العاملين فى الخارج قد بلغ نحو 19٫3 مليار دولار فى العام المالى 2014/2015 بما يجعل تلك التحويلات ثانى اهم مورد للنقد الأجنبى فى مصر بعد الصادرات السلعية. وإذا تأثرت تلك التحويلات سلبيا فإن ذلك سوف يؤثر سلبيا على موقف الجنيه المصرى مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسية.
كذلك فإن ثلث الصادرات السلعية المصرية يتوجه إلى الأسواق العربية وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية وليبيا، وبالتالى فإن اى عملية ترشيد للواردات فى تلك البلدان يمكن أن تؤدى لجمود الصادرات السلعية المصرية إليها.
أما بالنسبة للدول العربية المصدرة للنفط فسوف يؤدى الانهيار الحادث فى أسعار النفط إلى التأثير سلبيا على معدلات النمو فيها، وإلى التأثير سلبيا على موازناتها العامة التى تشكل الإيرادات النفطية الغالبية الكاسحة من إيراداتها العامة. ويشير التقرير الاقتصادى العربى الموحد إلى ان الإيرادات النفطية قد شكلت نحو 71٫5% من إجمالى الإيرادات العامة فى الدول العربية مجتمعة. وترتفع النسبة إلى أكثر من 90% فى بعض الدول المصدرة للنفط.
وسوف يكون على الدول العربية أن تتعامل مع الواقع الجديد فى سوق النفط بصورة فعالة ومرنة، من خلال تنشيط مصادر جديدة للإيرادات العامة من خلال تطوير نظمها الضريبية شريطة ان تتوجه لتحصيل الضرائب من الأثرياء وليس الفقراء حتى يكون التوجه عادلا. كما سيكون عليها أن تعدل موازناتها إلى موازنات تقشفية ترشد الإنفاق إلى ابعد حد ممكن. كما أنها يجب أن تمضى قدما فى تطوير وتنويع اقتصاداتها لتطوير قطاعات الصناعة التحويلية والخدمات الأكثر فعالية وذلك بتمويل من التراكمات المالية التى كونتها فى فترة الطفرة النفطية الممتدة من عام 2003 وحتى عام 2014. وسيكون على الجميع وفى القلب مصر ان يكثفوا الاعتماد على العمل والعلم كمصادر للدخل والثروة وليس على ريع الموارد الطبيعية الناضبة حتى لو كان استغلالها أمرا مهما، فهذه المنطقة لن تتقدم إلا عبر هذا الدرب الذى تقدمت دول العالم بالسير فيه.