أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر

أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر

أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر

 تونس اليوم -

أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر

حازم صاغية
حازم صاغية

مؤخّراً أقدم «حزب الكتائب اللبنانيّة» على تعديل اسمه. الحزب الذي أُسّس في 1936 أبرزَ تسميته الأخرى «الحزب الديمقراطي الاجتماعيّ»، على حساب مصطلح «الكتائب» المعروف والتاريخيّ. أملى ذلك، وفق ما قدّر المراقبون، عاملان: ضرورة الحضور في المجتمع المدني والمشاركة في نشاطه، والابتعاد عن الأصل الفرانكوي للتسمية الذي يعود إلى الثلاثينيّات، وعن التوجّه الميليشياوي الذي فُرض على الحزب في السبعينيّات. التغيير هذا خطوة شجاعة إلى الأمام، لكنّ تأويل دلالاته ومراجعة تاريخها وأسبابها هما وحدهما ما يكمّل المهمّة ويجعل تلك الخطوة خطوتين.
فالمفاهيم وما يترجمها من تسميات، مثلها مثل باقي الكائنات الحيّة، تولد وتنمو وتموت أو تتغيّر. تلك التي لا تموت منها، ولا تتغيّر، بل توصف بالخلود، تكون قليلة الحياة أصلاً، إن لم تكن عديمة الحياة. هذه، مثلاً، حال «الرسالة الخالدة» الشهيرة التي صاغها في الأربعينيّات مؤسّس «حزب البعث العربي الاشتراكيّ» ميشيل عفلق، واعتبرها أهمّ نتاجات «الأمّة العربيّة الواحدة».
لكنْ لئن باتت هذه «الرسالة» موضع تندّر واستهزاء خارج البيئة البعثيّة، فإنّ البعث، السوري منه والعراقيّ، لم يراجع مصائر التعبير هذا. لم ينتبه إلى تجاوز الواقع له. إلى أنّ «الرسالة» البعثيّة باتت تنحصر في زنازين التعذيب والموت، أكانت كبيرة بحجم وطن أو صغيرة بحجم قبر. كلمة «البعث» نفسها صارت كلمة هائمة على وجهها تبحث عن معنى.
هناك ما هو أفدح من خرافة «الرسالة الخالدة» التي لم يراجعها أصحابها ولا ناقشوها. مثلاً، في لبنان وسوريّا حزب كان كبيراً وبات صغيراً اسمه «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ». هذا الحزب الذي أُسّس في 1932، تضجّ أدبيّاته بالأعراق والجماجم والعلمويّات العنصريّة، وهو يدعو، قبل هذا وبعده، إلى أمّة يسمّيها «الأمّة السوريّة» وُجدت، تبعاً له، «قبل الزمن التاريخي الجليّ» وضمّت، فيما ضمّت، جزيرة قبرص. لكنّ السوريّين القوميّين، على خلافاتهم الكثيرة، متّفقون على شيء واحد: إن ما خطَّه قبل قرابة قرن قلم زعيمهم ومؤسّس حزبهم أنطون سعادة لم يفقد ذرّة من الصلاح والراهنيّة.
الأمر نفسه ينطبق، ولو بدرجة أقلّ فضائحيّة، على تعابير كـ«العروبة» و«القوميّة العربيّة» و«الأمّة العربيّة». بين الخمسينيّات والثمانينيّات، كانت هذه المصطلحات توشّي كلّ كلام سياسي تحمله المقالات والإذاعات والبيانات والخطب. جمال عبد الناصر وحده كان يذكر «القوميّة العربيّة» عشر مرّات في الخطاب الواحد. الآن صارت تلك التعابير أشبه بالترحّم على أجداد رحلوا. مع صعود الإسلام السياسيّ، حلّ بعض دعاة «العروبة» المشكلة الفعليّة حلاً كلاميّاً: بدل «الأمّة العربيّة» صاروا يقولون: «الأمّة العربيّة والإسلاميّة». فارق مئات ملايين البشر ومئات آلاف الكيلومترات المربّعة لم يحسبوا له أي حساب.
«تحرير فلسطين» أيضاً أعملَ الزمن مبضعه فيه. منذ 1967 حين طُرح شعار «استعادة الأراضي التي احتلّتها إسرائيل» بدأ الشعار القديم يلفظ أنفاسه. بعد ذاك، مع الدعوة إلى «دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع» ثمّ إلى «دولة فلسطينيّة تقوم جنباً إلى جنب إسرائيل»، صار «تحرير فلسطين» زيارة لذاكرة تعيسة ونائية. لكنّ هذا التحوّل الضخم لم تصحبه، هو الآخر، مراجعات تساويه ضخامة تشرح أسبابه ومعانيه. القلّة القليلة التي استمرّت تقول بـ«تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» خوّنت الآخرين، أو شكّكت بأغراضهم، أمّا الآخرون فمضوا في طريقهم كأنّ شيئاً لم يكن.
وعلى عكس أحزاب شيوعيّة في أوروبا تحوّلت عن الشيوعيّة إلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة، فناقشت تحوّلها وساجلت فيه، اختلف الأمر عندنا. أحزابنا الشيوعيّة حافظت على أسمائها وعلى رفع منجل ومطرقة لم يعد لهما مكان لا في الإنتاج الصناعي ولا في الإنتاج الزراعيّ، دون أن يستوقفها ضمور شعبيّتها. على هامش تلك الأحزاب كانت تكثر، في الستينيّات والسبعينيّات، تسميات الأحزاب والمنظّمات الجديدة التي تحمل كلمة «شيوعيّ»، «منظّمة العمل الشيوعيّ»، «حزب العمل الشيوعيّ»، «الحركة الشيوعيّة العربيّة»... لكنْ بعد انهيار المعسكر السوفياتي أوائل التسعينيّات لم يعد هناك مَن يؤسّس تنظيماً «شيوعيّاً». التسمية اختفت. الكلمة التي تقدّمت إلى الواجهة هي: يساريّ. مع هذا بدا الأمر أشبه بالتهريب: لم يظهر من يقول لماذا حصل التحوّل، وما الفارق بين الشيوعيّة واليساريّة، وأين تكون الثانية امتداداً للأولى وأين تكون انقطاعاً عنها. الأمر بدا أشبه بمسار طبيعي لا يستدعي شرحاً.
هكذا تعيش أحزابنا، ولو عيشاً ضحلاً، أطول مما تعيش فعلاً. الحياة تغدو طويلة دفتريّاً، لكنّها بلا حياة.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر أحزاب وأفكار لا تموت ولا تتغيّر



GMT 07:40 2021 الثلاثاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لا 99 ولا 100

GMT 10:52 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الصين جزء من المشكلة لا من الحلّ

GMT 10:49 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حاكم العراق يقلِّب جمرتين

GMT 10:47 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

بيان تعليق عضوية

GMT 09:34 2021 السبت ,09 تشرين الأول / أكتوبر

السادة المبعوثون

GMT 04:21 2016 الأربعاء ,28 كانون الأول / ديسمبر

إيرينا شايك تتألق في كنزة صوفية قصيرة ملونة

GMT 14:34 2021 الإثنين ,31 أيار / مايو

تحسن توقعات الطلب يرفع أسعار النفط

GMT 11:24 2021 السبت ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل 3 وجهات سياحية في تنزانيا

GMT 09:26 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

وفاة أول من رفع علم مصر فوق خط بارليف

GMT 19:22 2019 الجمعة ,28 حزيران / يونيو

نصائح لتحقيق حلمكِ في شعر طويل وصحي

GMT 17:13 2019 الثلاثاء ,12 شباط / فبراير

وفد قطري يشارك في مؤتمر عن التحكيم بسلطنة عمان

GMT 02:16 2020 السبت ,10 تشرين الأول / أكتوبر

رامز أمير يتألق في جلسة تصويرية جديدة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia