قَصيدَتُها ومَلحَمته

قَصيدَتُها ومَلحَمته

قَصيدَتُها ومَلحَمته

 تونس اليوم -

قَصيدَتُها ومَلحَمته

سمير عطا الله
سمير عطا الله

عام 1948 أصدر نزار قباني ديوانه الشعري الأول «قالت لي السمراء»، معلناً نفسه شاعر النساء وفارس العشق. لم يكن الغزل جديداً على الشعر العربي، فهو هناك منذ الجاهلية مروراً بالعصرين الأموي والعباسي. لكن الجديد عند نزار كان تجاوز الجميع بمن فيهم مثاله ونموذجه عمر بن أبي ربيعة. تخطى نزار بصورة خاصة شعراء زمنه في تلك المرحلة، خصوصاً الذين كان يُعجب بهم من أحمد شوقي إلى الأخطل الصغير إلى سعيد عقل. فالسادة المشار إليهم حافظوا على الكثير من الخَفَر وتجنبوا الإباحة، والتزموا إلى حد بعيد قواعد الشعر العذري حيث العاشق ملهوف ومهزوم ومُحاصر. أما نزار فقد استلّ السيف من غمده وراح يحارب طواحين النساء من شوارع مدريد إلى أقبية باريس.
وبعكس المحافظين من ذلك السرب الكبير لم يتردد في التأثر بالشعر الأجنبي، وتحديداً قصائد جاك بريفير ورَنبو وبودلير، وكان خصب القريحة ومكثاراً، يتعاطى مع النظْم وكأنه واجب يومي مثل الوظيفة الحكومية. وعندما حلت نكسة 1967 خلع نزار عن كتفيه رداء عمر بن أبي ربيعة ونزل إلى ساحة الهزيمة مغواراً لا يلوي على شيء. وأثار في تحفته المطولة «دفاتر النكسة» غضب الأنظمة وحماس الشعوب. وما بين النثر والشعر كوّن لنفسه صورة جديدة في الثقافة العربية. ولم يعد مجرد شاعر جامح غزير الموهبة وكثير الإنتاج وكثير العطاء، بل أصبح شاهداً من شهود الضمير العربي والحلم العربي وما أصابهما من خيبة ظلماء.
خلف صورة الشاعر الوسيم المتهتك، كان هناك نزار العاقل المتزن الأديب والزوج شبه المثالي. بعد وفاة زوجته الأولى تعرف إلى «إحدى ملكات بابل»، بلقيس الراوي. ولم يدم الزواج طويلاً، إذ تدخلت المأساة على نحو كارثي لتسرق من الشاعر حبّه وحلمه. كانت بلقيس الراوي تعمل في الملحقية الثقافية بسفارة العراق في بيروت. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1981 تعرضت السفارة لهجوم انتحاري سقط فيه 60 قتيلاً كان بينهم بلقيس الراوي قباني.
تحول شاعر المرأة إلى شاعر امرأة واحدة. وسمّى نزار مرثيتّه «قصيدة بلقيس»، باعتبارها منفصلة عن كل ما كتبَ وما سوف يكتُب. وقال لها: «ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا... عن نجمة سقطت... وعن جسد تناثر كالمرايا...».
لكن الشاعر المهزوم حتى الموت، لا يلبث أن يتذكر عنفوانه وعنفوان بلقيس: «وأقول... إن عفافنا عُهْرٌ... وتقوانا قذارة...».. تُرى هل كتب نزار قبل «قصيدة بلقيس»؟ هل كتب بعد «قصيدة بلقيس»؟ كلما عدت إلى ذلك الساحر الذي حوّل الشعر العربي إلى نزهة في الحدائق بين الزهور والأشجار، أيقنتُ أن «قصيدة بلقيس» هي ملحمته الأولى والأخيرة. فلما شق النرجسي التيّاه، الذي كان يكتفي بِرش العطر على القوافي، يقف هنا إنساناً يائساً وحزيناً أمام حكاية عمره وأمّته. لم تعد النكسة في سيناء، بل دخلت بيته وخطفت منه أجمل ملكات بابل: «ها نحن... يا بلقيس... ندخل مرة أخرى... لِعصر الجاهلية... ها نحن ندخل في التوحش... والتخلف... والبشاعة... والوضاعة... ندخل مرة أخرى عصور البربرية».

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قَصيدَتُها ومَلحَمته قَصيدَتُها ومَلحَمته



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 17:44 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 13:52 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجوزاء الخميس 29-10-2020

GMT 19:05 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 16:46 2016 الأحد ,21 شباط / فبراير

طريقة تحضير الكوردون بلو

GMT 08:56 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة الفنان السوري الكبير صباح فخري

GMT 19:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 19:12 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 09:02 2016 السبت ,23 تموز / يوليو

معًا لدعم الشغل اليدوي

GMT 06:20 2017 الإثنين ,29 أيار / مايو

ترامب بين قمم الرياض وألغام المتضررين

GMT 07:39 2021 الأحد ,31 تشرين الأول / أكتوبر

بين الرياض وبيروت
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia